القوى الإسلامية الحاكمة في العراق عاجزة عن تقديم حل ينقذ شعب العراق ويجنبه المزيد من الكوارث وتبعات سياسات نظام طهران التوسعية في العراق والمنطقة.
 

ليس غريبا أن يتسابق زعماء القوم من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق الموالين لنظام طهران لنصرته إعلاميا. ففي وقت واحد أطلق كل من نوري المالكي وعمار الحكيم وهادي العامري ثلاثة تصريحات لدعم نظام طهران، إعلاميا وسياسيا، وهو يواجه وتيرة متصاعدة من العقوبات الجهنمية مرتبطة بتواجد عسكري مكثف لم تشهده منطقة الخليج منذ حرب عام 2003 على العراق.

المالكي ظهر دبلوماسيا أكثر من غيره، لكن عمار الحكيم خرج عن اعتداله ووسطيته إلى التهديد بعدم الوقوف مكتوف اليدين إذا ما تهددت مصالحه وأمنه، أما هادي العامري (رئيس منظمة بدر التي ولدت في إيران) فكان أكثر تعبيرا في التصدي للولايات المتحدة، وفي ولائه وامتنانه لرفيق دربه الجنرال قاسم سليماني حيث قال لصحيفة الأندبندنت البريطانية “لقد ساعَدَنا كثیرا في تنسیق المعارضة”، ويقصد خلال الحرب العراقية الإيرانية، معتقدا أن “أميركا ضعيفة الآن وهي التي لم تستطیع عمل أيّ شيء مع جارتھا كوبا أو فنزویلا عندما كانت قوة عظمى، فماذا ستفعل ھنا”.

يذكر هذا الخطاب بالحالة العراقية في مواجهة الولايات المتحدة بعد عام 1990 رغم عدم التطابق بين الحالتين الإيرانية والعراقية من حيث الحشد الدولي الذي نجحت فيه الولايات المتحدة بسبب احتلال دولة عضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية هي الكويت، رغم أن إيران فعليا تحتل أربعة بلدان بالوكالة، وبذلك فهي متهربة من القبضة الدولية لكنها واقعة تحت القبضة الأميركية. والتوافق بين المثالين الإيراني والعراقي هو في المكابرة والاستناد إلى المعنويات والشعارات وضمير المجتمع الدولي إلى غير ذلك من هذه المفردات لتغطية الفشل وعدم مواجهة الحقيقة.

لقد سبق لنظام صدام حسين أن استهان بالقوة الأميركية بعد غزوه الكويت عام 1990 ويتذكر الجميع ذلك الاجتماع المثير بين وزير خارجية العراق، الراحل طارق عزيز، ووزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، على طاولة إحدى صالات الفندق بجنيف يوم 9 يناير 1991 قبل تسعة أيام من حرب الكويت، حين رفض استلام رسالة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، والمبلغة لصدام حسين المطالبة بانسحاب العراق من الكويت وإلا واجه الحل العسكري الأميركي وتحمل مسؤوليات التداعيات اللاحقة من قبيل قول بيكر المشهور “سنعيد العراق إلى ما قبل العهد الصناعي” وهذا ما حصل فعلا.

القوى الإسلامية الشيعية الحاكمة في العراق عاجزة عن تقديم حل ينقذ شعب العراق ويجنبه المزيد من النكبات والكوارث وتبعات سياسات نظام طهران التوسعية في العراق والمنطقة، فهل يجوز لعقيدة بعض الأحزاب أن تكون سببا في اشتعال النيران في العراق؟ ألم تعجز عقيدة البعث الواحدة بين دمشق وبغداد عن منع نظام حافظ الأسد لأن يصبح حليفا لطهران في حرب 1980 – 1988،  ومن بعده ابنه بشار في تحالف تحرير الكويت عام 1991، ودون الخوض في تفصيلات ولاء بعض الأحزاب الإسلامية لنظام طهران، فهذا شأنها العقائدي والسياسي، ألم ترتهن الأحزاب الشيوعية لسياسات موسكو السوفييتية وفقدت الكثير من شعبيتها بسبب ذلك الارتهان؟ لكن الحالة العراقية الراهنة تتعلق بمصالح العراق العليا وأمنه الوطني وليس الاقتصادي والاجتماعي فحسب، مما يتطلب الحكمة والمراجعة وعدم الارتهان لموجات الانتخابات المزيفة لتمرير الهيمنة السياسية، فهناك 80 بالمئة من سكان العراق خارج هذه الحسبة.

والأكثر غرابة هو أن هذه القوى والزعامات رغم حرج الظروف الحالية وتصاعد الأزمة بين واشنطن وطهران لم تتمكن من التخلص من حالة الولاء العقائدي إلى تدابير سياسية تستعين بها حكومة عادل عبدالمهدي لوضع حلول تحفظ أمن العراق، بل تركته في حيرته بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني.

فهل يمكن لسياسيين مبتدئين قبول فكرة وساطة حكومة عادل عبدالمهدي بين الولايات المتحدة وإيران بتجاهل واضح للواقع الجيوسياسي العراقي الحالي الباحث عن الأمن والاستقرار ومداواة الأزمات الداخلية الكبرى في الفساد والفشل، أو يقفز على الحقائق التي قدمها وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو لعادل عبدالمهدي خلال زيارته الأخيرة لبغداد، حيث حمل خلالها رسالة صريحة حاسمة من واشنطن بأنها على علم بتفاصیل تحركات معادیة لھا في الداخل العراقي، حيث طلب من رئیس الحكومة تحیید العراق في النزاع مع طھران وإيقاف الدعم العراقي لإيران وحمایة المصالح الأميركیة من أي تھدید محتمل من قبل الفصائل التي تؤید إيران.

وتسربت معلومات بأن عبدالمهدي قدم تعهدات لبومبيو بأن فصائل الحشد الشعبي ستكون منضبطة، وهناك تصريحات من بعض المسؤولين في بعض الفصائل تعلن أنها ستلتزم بعدم التحرش بالمصالح الأميركية في العراق رغم وجود فصائل مسلحة لا تلتزم بالأوامر الرسمية وهنا تكمن المشكلة، فأين موقع الوساطة في هذه الحالة؟

لقد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعبارة شبيهة بالدعابة بأنه أودع رقم هاتفه في سويسرا لكي يتصل به حكام إيران إن أرادوا الحوار. فهذا يعني هذا أنهم ليسوا في حاجة إلى وساطة في ظل عمليات استعراض القوة الأميركية في الخليج العربي (حاملة الطائرات أبراهام لينكولن وصواريخ باتريوت ووصول المدمرة برلينغتون والقاذفة سيئة الصيت في حرب العراق بي 52 وغيرها من الاستعدادات) للرد على أيّ حماقة إيرانية سواء على المصالح الأميركية في العراق أو في المنطقة، أو في تهديدات إغلاق مضيق هرمز التي أصبحت ورقته منتهية الصلاحية.

نظرية الحرب بالنيابة سقطت حينما اعتبرت واشنطن أي تحرش لفصائل مسلحة داخل العراق بكونه اعتداء من إيران. القضية بكل بساطة هي أن هدف استراتيجية ترامب تغيير سلوك نظام طهران وليس إسقاط نظامه، ولو كان هذا الهدف قائما في التصور الأميركي لما استحت الإدارة الأميركية من إعلانه. ومن بين فقرات هذا البرنامج الذي دخل مرحلة التنفيذ هو تفكيك النفوذ الإيراني في العراق بشكل تدريجي وهو خيار يبدو أفضل لها من المواجهة العسكرية مع أدوات إيران في العراق، لأن تلك المواجهة ستتسبب بانهيار الاستقرار الهش الموجود في هذا البلد.

واشنطن ليست خجلة من إعلان حجم وجودها العسكري في العراق حماية لمصالحها، ولن تتوصل الحكومة العراقية الحالية إلى التخلي عن هذا الوجود الذي يشكل حماية للمصالح الأمنية العراقية العليا من الانهيار. وحكام طهران يعلمون حجم هذا الواقع العسكري ولا يتجاسرون على التحرش به عبر مواليهم، لأنهم يعلمون بأن الرد العسكري سيكون قاسيا، لكنهم يحاولون تحسين شروط الحوار مع الأميركان. لكن أيّ شروط يبحثون عنها، إنهم في موقع العاجز من خلال ما تتركه العقوبات القاسية على نظامهم ولن يتمكنوا من المطاولة كثيرا وسيذهبون للإذعان لشروط واشنطن المعلنة في البنود الاثني عشر، وهي لا تتعلق بالاتفاق النووي الذي انتهى، وإنما في التوقف عن دعم الميليشيات في المنطقة وعدم التدخل في شؤونها وإيقاف تصنيع الصواريخ الباليستية، واحترام إرادة وحقوق الشعوب الإيرانية.

إنها أوراق الخريف الإيراني التي تتساقط، وما على النظام سوى الاعتراف الذي ربما يكون متأخرا. وهنا نقول للزعامات السياسية الصديقة لطهران في العراق: لماذا لا تتحدثون مع أصدقائكم وتطلبون منهم تعديل السياسات والانسحاب والعودة إلى بلدهم وترك العراق، مع المحافظة على “أخوّتكم وصداقتكم لهم”؟ لكن هناك من يجيب: إن تخلى النظام الإيراني عن هذه الاستراتيجية المهلكة فإنه سيصبح نظاما آخر.