نبّهنا فيما تقدّم من إثارات إلى ضرورة استكشاف وعي المؤسّسين الكبار من خلال طبيعة مرويّاتهم، وأكّدنا هناك على أن البيّن الواضح لمن راجع التّراث الإثني عشريّ: إنّ وعي المؤسّسين الأوائل كان هابطاً جدّاً للأسف الشّديد، وأبرز دليل على هبوطه المعرفيّ هو مستوى بعض الرّوايات الّتي يوردونها في مصنّفاتهم ويؤمنون بصحّة صدورها ويتعبّدون الله عن طريقها، ولكي لا نستغرق في العموميّات علينا أن نقدّم مثالاً واحداً والأمثلة المتنوّعة فوق أن تُحصى:


عقد المرحوم الصّدوق المتوفّى سنة: "381هـ" باباً في كتابه المُسمّى بـ "علل الشّرائع: حمل عنوان: «باب علّة الصلع في رأس أمير المؤمنين "ع" والعلّة التي من أجلها سمّي الأنزع البطين»، وقد أورد فيه ثلاث روايات، الثّانية منها ـ والتّي تعنينا في المقام ـ رواها بإسناده الضّعيف وذي المجاهيل عن شيخه الّذي أصفه بالخطير والّذي روى وترضّى وترحّم عليه كثيراً ووثقّه جملة من المعاصرين إثر ذلك أعني: محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطّالقانيّ، بإسناده عن جعفر بن محمّد الصّادق "ع" قوله: «سأل رجل أمير المؤمنين "ع" فقال له: أسألك عن ثلاث هنّ فيك، أسألك عن قصر خَلْقك، وعن كبر بطنك، وعن صلع رأسك؟ فقال أمير المؤمنين "ع": إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلقني طويلاً ولم يخلقني قصيراً، ولكن خلقني مُعتدلاً أضرب القصير فأقدّه وأضرب الطّويل فأقطّه، وأمّا كبر بطني: فإنّ رسول الله "ص" علّمني باباً من العلم ففتح لي ذلك الباب ألف بابٍ فازدحم العلم في بطني فنفجت عنه عضويّ. وأمّا صلع رأسي: فمن إدمان لبس البيض [الخوذ] ومجالدة الأقران». [علل الشّرائع: ج1، ص159؛ الخصال: ج1، ص189 علماً إنّ فقرة تبرير الصلع جاءت في الخصال وبُترت من العلل].

إقرا أيضا: الصّلاة فوق الكعبة وهبوط وعي المؤسّسين!!

وقد سعى شيخ المحدّثين الإثني عشريّة المجلسي المتوفّى سنة: "1110هـ" إلى إيضاح ما في الرّواية أعلاه من مفردات، وحينما وصل إلى تفسير انتفاخ بطن الأمير "ع" بسبب العلم علّق قائلاً: «وأمّا كون كثرة العلم سبباً لذلك فيحتمل أن يكون لكثرة السّرور والفرح بذلك؛ فإنّه "ع" لما كان ـ مع كثرة رياضاته في الدّين ومقاساته للشّدائد وقلّة أكله ونومه وما يلقاه من أعدائه من الآلام الجسمانيّة والروحانيّة ـ بطيناً لم يكن سببه إلّا ما يلحقه ويدركه من الفرح بحصول الفيوض القدسيّة والمعارف الربّانيّة، ويمكن أن يكون توفّر العلوم والأسرار الّتي لا يمكن إظهارها سبباً لذلك، ولعل التجربة أيضاً شاهدة به، والله يعلم». [بحار الأنوار: ج35، ص54].


أقول: لا تهرب إلى الأمام وتقل لي إنّ الرّواية ضعيفة السّند كما هو جواب العجزة بل والجهلة في هذه الأيّام؛ وذلك: لأنّ ما يعنيني في المقام ليس هو تقييمك الشّخصي أو تقييم مرجع تقليدك المعاصر للرّواية، وإنّما التّقييم الّذي يراه المرحوم الصّدوق لها؛ إذ كان الرّجل يعتقد بصحّتها ويعمّق دين الله في نفوس النّاس عن طريقها، وبهذه الرّواية وأمثالها سوّق المذهب الإثنا عشريّ وعُمّم في الأوساط للأسف الشّديد، لكن لا أدري: أ لم يسأل الصّدوق والمجلسي أنفسهم عن علاقة العلم بالبطن؟!


لا شكّ في أنّ من يُريد التّصديق بهذه الرّواية وأمثالها تعبّداً فعليه أن يذهب إلى أقرب مصحّة عقليّة لعلاج نفسه وتطوير وعيه، وعلينا أن نجعل أمثال هذه النّصوص خير منبّه على ضرورة إعادة النّظر في كبرى حسن الظّن بالأكابر الفاسدة؛ وذلك لأنّ أولئك الكبار لم يكونوا سوى بشر عاديّين يحكمهم الوعي الأسريّ والمجتمعيّ الّذي نشأوا فيه فضلاً عن طموحاتهم وتجاذباتهم، وبالتّالي: فحتّى نقدهم المتواضع للحديث ـ إن وجد ـ فلم يكن يتعدّى هذا الوعي الحاكم الّذي لا زلنا إلى هذه الّلحظة ندفع أثمانا باهظة بسببه، ولا ينبغي بحالٍ من الأحوال أن نجعل مرويّاتهم واستنباطاتهم واجتهاداتهم أساساً لمذهبنا الفقهيّ أو العقائديّ المعاصر ونسوّرهم ومقولاتهم بدائرة المحرّمات والضّروريّات، فليتأمّل أهل التأمّل كثيراً، والله من وراء القصد.