كشفت مصادر سياسية وديبلوماسية أنّ زيارة ساترفيلد للبنان تحمل هذه المرة أبعاداً مميزة يستحسن بالمسؤولين اللبنانيين التقاطها والتعاطي معها بذهنية جديدة، نظراً للأوضاع الدقيقة ولتمرير هذه المرحلة المليئة بالمفاجآت بأقل ضرر ممكن.

فزيارة هذا المسؤول الأميركي تأتي فيما ترتفع حرارة التحديات الأميركية ـ الإيرانية في الخليج وقبل أسابيع قليلة من كشف واشنطن عن بنود «صفقة العصر» التي سيكون لها ارتداداتها اللبنانية من خلال اللاجئين الفلسطينيين وتثبيت الحدود البرية الدولية والثروة النفطية.

مهمة ساترفيلد

وعلمت «الجمهورية»، من مصادر التقاها ساترفيلد أمس، أنّ مهمته تتركز على النقاط الآتية:

ـ الأولى: مصير الاتصالات الجارية للتنقيب عن النفط في المنطقة الحدودية اللبنانية ـ الإسرائيلية. وفي هذا الإطار ينصح ساترفيلد الدولة اللبنانية بأفضلية القبول منذ الآن بإجراء مفاوضات، ولو غير مباشرة، مع إسرائيل للاتفاق على ترسيم الحقوق اللبنانية في هذه المربّعات النفطية والغازية لأنّ الاتصالات التي أجرتها الإدارة الأميركية مع إسرائيل في الأشهر الأربعة الأخيرة لم تسفر عن تليين الموقف الإسرائيلي حيال فكرة ترك الحرية للبنان في التنقيب عن النفط من دون التفاهم على ترسيم الحدود البحرية بينهما.

وتضيف المعلومات أنّ المسؤول الأميركي جدّد استعداد واشنطن للعب دور في المفاوضات يكمل الدور الذي تحاول الأمم المتحدة القيام به، والذي وصل على ما يبدو إلى حائط مسدود لأنّ إسرائيل لا تثق بالمنظمة الدولية وتفضّل أن تلعب واشنطن دور الوسيط بينها وبين لبنان. وحسب المسؤول الأميركي، إنّ من مصلحة لبنان المباشرة في هذه المفاوضات لأنّ احتمال حصول تطورات إقليمية سلمية أو عسكرية سيهمّش الوضع اللبناني ويعرقل قدرة لبنان على استخراج النفط الذي يبدو أنه الحل الوحيد للمديونية اللبنانية.

ـ الثانية: ضرورة معالجة وضعية «حزب الله» داخل السلطة اللبنانية. فالمسؤول الأميركي يشير إلى أنه من الصعوبة تحييد ساحة لبنان عن التطورات الشرق الأوسطية طالما بقي حجم دور «حزب الله» في قرار الحرب والسلم على ما هو عليه.

ويبدو حسب المصادر ذات الثقة أنّ لدى الأجهزة الأميركية معلومات تؤكد أنّ «حزب الله» سيتحرك عسكرياً في حال حصل أي تدهور بين إسرائيل وإيران، أو بين أميركا وإيران.

وتؤكد هذه المعلومات أنّ «أميركا وإسرائيل صبرتا ما فيه الكفاية على تصرفات «حزب الله» وعدم تقيّده بالقرارات الدولية، ولاسيما منها القرار 1701».

وطالب ساترفيلد الحكومة اللبنانية باعتماد موقف متمايز عن «حزب الله» إذا كانت عاجزة عن ضبطه، وشدّد على ضرورة حصول افتراق حقيقي بين المؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان وقيادات «حزب الله».

ـ الثالثة: طريقة تطبيق لبنان العقوبات الأميركية ضد «حزب الله»، ذلك أنّ الإدارة الأميركية تملك معطيات تشير إلى أنّ «الحزب» لا يزال يتمتع بحرية الحركة المالية والاقتصادية من خلال مؤسسات لبنانية تنتمي إلى النظام المالي اللبناني.

وشدّد ساترفيلد على ضرورة معالجة هذا الموضوع سريعاً لأنّ الإدارة الأميركية ترغب في حماية النظام المصرفي اللبناني وفي مساعدة لبنان اقتصادياً، لكن يفترض بلبنان في المقابل أن يساعد نفسه ولا يتذرّع دائماً بضعف الدولة أمام «حزب الله» للتمَلّص من الالتزامات الدولية.

وذكرت المصادر نفسها أنّ ساترفيلد أبلغ الى شخصيات لبنانية أنّ المرحلة السابقة كانت مرحلة مراوحة تسمح بأخذ الأوضاع اللبنانية في الاعتبار والتسامح، لكنّ المرحلة الحالية مختلفة، إذ انّ المنطقة مرشحة للدخول في مدار جديد يصعب معه التهاون مع الحالة اللبنانية.

في السراي الحكومي

وكان ساترفيلد قد بدأ جولته على المسؤولين اللبنانيين بلقاء مع رئيس الحكومة سعد الحريري في السراي الحكومي عصر امس إستمر نحو ساعة تقريباً، وجاء بعد زيارته بكركي وتعزية البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بالبطريرك صفير.

وإذ تكتّمت مصادر السراي الحكومي على مضمون اللقاء الذي وصف بأنه «كان متشعّباً»، وقالت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» انه تناول في بداياته جديد التطورات في المنطقة، ولاسيما منها أحداث الخليج من عمليات التفجير في ميناء الفجيرة الإماراتي الى استهداف مضخّات النفط في اكبر خطوط الجر بين آبار النفط في شرق المملكة العربية السعودية وغربها، وهو ما شَكّل مقدمة للحديث عن بقية التطورات فكانت قراءة شاملة للتطورات وتداعياتها المحتملة، وخصوصاً بعد تبنّي الحوثيين في اليمن هذه العملية.

وفي جانب آخر من اللقاء - أضافت المصادر عينها - تناول البحث مضمون رسالة لبنان الاخيرة لواشنطن المتضمنة موقفاً لبنانياً موحداً من ترسيم الحدود البرية والبحرية اللبنانية - الإسرائيلية كسلّة واحدة مُرفقة بقبول لبنان بالدور الأميركي الوسيط للقيام بهذه المهمة التي اقترحها الجانب الأميركي.

وعرض الحريري وساترفيلد لمراحل المفاوضات السابقة منذ تولّي ساترفيلد هذا الملف والزيارة التي قام بها وحيداً الى بيروت في 4 و5 آذار الماضي، بعد انقطاع امتدّ عن زيارته السابقة في 16 شباط 2018. وقبل الحوار الذي جرى على هامش زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بين 22 و23 آذار الماضي، والذي رافقه ساترفيلد وزميله دايفيد هيل.

وفيما لم ترشح اي معلومات تفصيلية عن نتائج اللقاء الذي انتهى قبَيل توجّه الحريري الى الإفطار الرئاسي في بعبدا، دعت مصادر السراي الحكومي الى التريّث لأنّ جولة ساترفيلد الرسمية والعلنية طويلة وستتوسّع من اليوم بين بعبدا وعين التينة ووزارة الخارجية، حيث من المتوقع ان يظهر الجديد في مواقف بلاده من المبادرة اللبنانية الجديدة.

وفي هذا الوقت نقل عن ساترفيلد ارتياحه الى الموقف اللبناني، وهو ما عبّر عنه في لقاءات سبقت زيارته االحريري وانعقدت بعيداً من الأضواء وجمعته مع عدد من اصدقائه الذين نقل أحدهم عنه انه يحمل افكاراً جديدة يمكن ان يبوح بها في جولته هذه، والتي قد يعود في نهايتها مرة أخرى الى السراي الحكومي.

فيما لفتت المصادر الدبلوماسية الى انّ السفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد لا ترافقه في هذه الزيارة، وهو ما يعبّر عن حساسية الموقف والمهمة الجديدة التي يقوم بها.

الموازنة

وعلى جبهة الموازنة وبعد 12 جلسة لدرسها في مجلس الوزراء، إحتدم فيها النقاش حيناً وتعثّر حيناً آخر بسبب الخلافات السياسية المعهودة، ضرب رئيس الحكومة سعد الحريري أمس يده على الطاولة وأعلن انتهاء الجولات ودخول مرحلة التصفيات النهائية في جلسة أخيرة تعقد ظهر اليوم الاربعاء ولا تنتهي إلّا مع إنهاء النقاش، حتى ولو اضطر الأمر أن يبقى الوزراء الى وقت الافطار او يعودوا بعده حتى السحور. ليتسنّى بعدها، طَبع المسودة الأخيرة للموازنة لإقرارها في جلسة تعقد في قصر بعبدا بحضور رئيس الجمهورية والمرجّحة بعد غد الجمعة. وفي مستهلّ جلسة أمس إستمع مجلس الوزراء الى اقتراحات وزير الخارجية جبران باسيل ضمن سلة وزّعها على مجموعة ابواب هي: «حجم الدولة، الإهدار داخل الموازنة، التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي، خدمة الدين العام، الميزان التجاري والوضع الإقتصادي ككل».

وناقش المجلس مجموعة اقتراحات قدمها بعض الوزراء، واستكمل درس موازنات الوزارات، فاحتدّت الأجواء اثناء مناقشة ارقام وزارة الدفاع، حين طلب الحريري غير مرة من الوزير الياس بو صعب ان يكشف عن أرقامه، فامتنع بحجّة أنه يريد مقارنتها مع أرقام وزارة الداخلية بعد عودة الوزيرة ريا الحسن من سفرها.

 
 

ولكن الحريري ألحّ على بوصعب غير مرة، الى أن رفع صوته مُستاءً ودارَ جدل كبير انتهى الى تقديم بو صعب أرقامه، وأعلن لدى خروجه من الجلسة عن «نسبة خفض كبيرة لكنها لا تمسّ برواتب العسكريين ولا المتقاعدين».

الالتزام الضريبي

وعلمت «الجمهورية» أنّ وزير المال علي حسن خليل وزّع على الوزراء مشروع قانون لتعزيز الالتزام الضريبي، والذي كان قد أرسله منذ 20 آذار الى الامانة العامة لمجلس الوزراء، وذلك رداً على المداخلات التي استندَت الى ضرورة اتخاذ إجراءات لوقف التهرب الضريبي.

أمّا موضوع اقتطاع نسبة من رواتب الموظفين فقد سحب من الاجراءات والتداول، كذلك بند خفض 50% من رواتب السلطات العامة، وبقي بند ضريبة الدخل على معاشات التقاعد وفقاً للشطور فتكون بنسبة 1% على الرواتب الأقل من مليونين، وترتفع الحسومات التقاعدية مع ارتفاع الرواتب، فمن يتقاضى 12 او 20 مليون ليرة سنوياً لا يعامل كمَن يتقاضى 50 مليون ليرة سنوياً.

وقال أحد الوزراء إنّ النقاش في الموازنة يفترض أن ينتهي اليوم، ولفت إلى «أنّ ما يُحكى عن خلافات جوهرية أو في العمق ليست في محلها، لا بل إن ثمة تفاهماً يمكن وصفه بالشامل حول البنود الأساسية الواردة في الموازنة، والتي يراد منها خفض العجز في المالية العامة».

«التيار»

واعتبرت مصادر «التيار الوطني الحر» أنّ رزمة الإجراءات التي عرضها باسيل في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد انتهاء اجتماع تكتل «لبنان القوي»، تهدف إلى نقل الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي يقوم على قطاع الخدمات، إلى قطاع منتج يدعم القطاعات المنتجة من صناعة وزراعة.

ولفتت مصادر وزارية إلى أنّ عدداً من الأفكار التي طرحها باسيل وردت في متن مشروع الموازنة أو تمّت مناقشتها في وقت سابق.

وأشارت مصادر «التيار» إلى أنه «من أهداف من هذه البنود الإصلاحية الحؤول دون بقاء المكلف اللبناني، مُستهلكاً لما يتمّ استيراده من الخارج، وذلك من خلال رفع الضريبة على المواد المستوردة، من باب تشجيع الصناعة المحلية والاستفادة من وَفر مالي لدعم القطاعات الانتاجية، والحؤول دون خروج مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية خارج البلاد والعمل تالياً على تحسين ميزان العجز التجاري.

«القوات»

وقالت مصادر وزارية انّ نائب رئيس مجلس الوزراء غسان حاصباني قدّم في مداخلة له «مجموعة الإقتراحات الفعليّة التي، إذا أُخذ بها، فهي كفيلة بتحقيق هدف رفع الإيرادات والحدّ من الهدر».

وتطرّق حاصباني إلى وجوب تعزيز الإيرادات من التحصيل الضريبي الجمركي عبر إضافة المواد ١، ٣، ١٠ و١١ من مشروع قانون التهرب الضريبي على قانون الموازنة، كما اتّخاذ قرارات مباشرة وتوقيع مراسيم ترفع من إنتاجية التحصيل مثل «السكانر» التي قد ترفع الإيرادات بنسبة الثلثين. يُضاف إلى ذلك مطالبة حاصباني بالتشديد على التزام الإجراءات المتعلّقة بهذه المسألة في ما خصّ وزارة المال وديوان مجلس الوزراء.

إلى ذلك، تحدّث حاصباني عن وجوب المباشرة بإصلاحات في مرفأ بيروت عبر التوجّه نحو الخصخصة، أو أقلّه الشراكة مع القطاع الخاص وزيادة تحويلات المرفأ بقيمة ٥٠ مليار ليرة إضافية، معلناً عن اقتراح مفصّل سيتقدّم به إلى مجلس الوزراء ووزير الأشغال والنقل.

وتناول حاصباني ملف قطاع الإتصالات حيثُ أعلن عن وجوب رفع تقديرات الإيرادات فيه بقيمة ٢٠٠ مليار ليرة لكي تُعادل نصف الانخفاض المرصود، مؤكّداً ثقته بوجود تصوّر لدى وزير الاتصالات لبلوغ هذا الهدف. كذلك فَنّد مسألة التسويات على الأملاك البحرية حيثُ حدّد سقف التقديرات الواجب بلوغه بحدود الـ١٠٠ مليار ليرة.

قيومجيان

وقال وزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان لـ«الجمهورية»: «أنا اقول في الداخل ما أقوله في الخارج، ولستُ خائفاً لكنني لم أشأ توتير الاجواء لأسباب «بلا طَعمة». المهم انّ الرئيس الحريري ووزير المال مقتنعان بالارقام التي اتفقنا عليها بالنسبة الى وزارة الشؤون، وبالتالي لماذا أخوض معركة في غير محلها. أوضحتُ ما أردتُ للرأي العام، والزيادات التي طرأت على موازنة الشؤون هي رواتب والتزامات مع الجمعيات لأنّ السحب من الاحتياط لم يكن متوافراً بسبب نفاد الاحتياط والعملية كلها زادت بنسبة 7 مليارات ليرة، في المقابل خفضت من النفقات التشغيلية نحو 3 مليارات ليرة، وقمت بكل ما هو مترتّب علي».

خليل

وقال وزير المال علي حسن خليل لـ«الجمهورية»: «غداً (اليوم) تتبلور الارقام بعد إدخال التعديلات التي اتفقنا عليها في مجلس الوزراء، وسيُعاد النظر بكثير من البنود والاجراءات. هناك مواد مقررة مسبقاً في الموازنة، وهناك إجراءات مقترحة تعالج خارج الموازنة داخل الادارات. توجّه رئيس الحكومة هو الانتهاء من دراسة الموازنة غداً (اليوم)، وأنا مرتاح لأننا سنصل الى نتائج ايجابية».

وعلمت «الجمهورية» أنّ وزير المال سيعقد عند التاسعة صباح اليوم سلسلة اجتماعات مع فريق إعداد الموازنة لإجراء مراجعة نهائية للارقام قبل عرضها على مجلس الوزراء، وهي لن تختلف كثيراً عن الارقام المحددة في المشروع الاساسي، أي وَفر يقدر بـ 2,300 مليار ليرة وعجز يقارب الـ 8,7%.

وسيعقد خليل مؤتمراً صحافياً بعد إقرار الموازنة يشرح فيه كل الاجراءات والتعديلات، ويعرض للرأي العام أرقامها المقدرة والمرصودة.

خلوة رئاسية وإفطار

وكانت الموازنة والتطورات المحيطة بها ومهمة ساترفيلد الجديدة في لبنان مدار بحث في خلوة جمعت عون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري، وسبقت الافطار الرمضاني الرئاسي السنوي الذي أقيم مساء أمس في القصر الجمهوري.

وقال عون في كلمة له خلال الافطار «انّ الإصلاح نهج وليس شعاراً»، مؤكداً انّ «التحدي اليوم أمام الحكومة في وضعها موازنة 2019 ليس فقط في الترشيق والخفض المقبول والمتوازن، بل في قدرتها على توفير عنصرين لتحاكي الأزمة التي تعصف بالوطن والشعب، هما: تحديد مكامن الخلل والهدر والفساد والقضاء عليها، وتظهير الوظيفة الاقتصادية للموازنة بعد طول إنكار وغياب، لتبدأ بعدها معالجة حقيقية للعجز في شقّيه: المالي والتجاري، في ضوء اعتبار واحد: مصلحة الشعب العليا».

وإذ طمأن عون الى أنّ «الليرة بخير، ولا خطر يتهددها، والصعوبة التي نمر بها مرحلية ومحدودة»، لفتَ الى انه «إن لم نُضحِّ اليوم جميعاً ونتخلّص من بعض امتيازاتنا التي لا نملك ترف الحفاظ عليها، نفقدها كلها». وشدّد على انّ «التضحية ستكون متوازنة ومتناسبة بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير».

وتوجّه الى الحكومة قائلاً: «أعيدوا إلى اللبناني ثقته بدولته، أثبتوا له أنّ تضحياته لن تذهب سدى في مسالك الهدر والفساد الوعرة، عندئذ فقط نستعيد شعبنا الى وطنه».