إستقبله رئيس الملائكة ميخائيل على بوابة الجنة، رافقه الى حبريته البطريركية التي كُتب عليها: هذا الذي إستحق ان يكون له مجد لبنان، الذي يصل حاملاً صليب لبنان على كتفيه وفي قلبه المفعم بروح الايمان، هذا الذي قال إن الوطن لا يُحمل في الجيوب، الوطن يُحمل في القلوب!

إذاً تعال يا سيد البطاركة، يا روحاً تعشق الحرية والسيادة والكرامة والنبل، تعال نقيم لوصولك قداساً وبخوراً وتراتيل في حضرة يسوع، ونقيم للبنان الذي وصلت تحمله في قلبك، إلينا قداساً وكثيراً من الدعاء، وكم يحتاج لبنان منا الى الدعاء!

لكنني أسأل: سامحني أيها الملاك ميخائيل، من قال إن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، حمل قلبه معه وصعد اليكم تاركاً لبنان ومرتحلاً الى حبريته السماوية، هاجراً المدرسة التي صنع قواعدها ودروسها والإملاء، والتي ستعلّم أحفاد أحفادنا حب الوطن الحر السيد المستقل، الوطن الإنسان من دم ولحم وروح وعقل؟

من يقول لكم في عليائكم إن قلب سيدنا البطريرك صفير، الذي عاش كل آلام لبنان في أيامه الصعبة، تحت نيران الفريسيين ورماحهم والإسفنج يملأ جروحاته وصمته الصارخ، صفير الذي كان خفاقاً كسارية حرية وكرامة وسيادة، والذي سهرت قلوب اللبنانيين على وقع نبضه المتباطىء قبل ان يفرد جناحيه ويطير… نعم من يقول إن قلبه نابض عندكم وحدكم؟

مات البطريرك صفير ولكن قلبه لن يتوقف قط، نبضه لن يتوقف قط، صمته الإليم لن يكفّ قط عن الصراخ عندنا وفينا، في كل ذرة من تراب لبنان، من الناقورة الى النهر الكبير، شيء من نبض صفير وعقله الهادىء كعاصفة، وإيمانه الورع كقديس، وشجاعته العظيمة، وتواضعه كناسك، يختار ان يبقى ويجعل من كرامة لبنان محبسة صلواته والرجاء! لا، لن يتوقف قلب البطريرك صفير، لن يتوقف قلب صفير المدرسة والرسالة والذين يشاهدون أبناءهم يذرفون الدموع ويتفجعون الآن، سيعرفون أنهم يحفظون الدرس باكراً وان البطريرك الذي يقيم لهم الحراسة من لدن ربه، لطالما علّمهم ان الإيمان ليس مجرد صلاة، بل إنه ان تَحمل كلمة الله في الإنسان والوطن، وكل ما فعله صفير انه كان حارساً أميناً على روح شعار بكركي، بأن مجد لبنان أعطي له، لهذا كان بطريركاً مقاتلاً بالتواضع وصار مدرسة تاريخية درسها الأول والأخير، ان من لبنان يستحق مجد الحرية والكرامة والسيادة وان من يُعطى له هذا المجد سيحمل صليبه ويسير في جلجلته!

عندما كان لبنان سفينة غارقة في لجج نيران حرب المئة يوم تحرق الأشرفية، لم يتردد لحظة في ان يعطيني نداءً الى العالم العربي الغاشي، كمانشيت لجريدة “الحياة”، لكن الجلجلة ستستمر، وتماماً كما قال لي مراراً: في النهاية ليس من سجن يكسر السجين!

لن يتوقف قلب صفير، إنه نابض في كل زهرة تنبت في ريفون ولبنان، في كل نحلة من حرمون تسعى لصنع العسل، في كل فراشة تكتب قصيدة، في كل فجر ينشق من صنين، في كل موجة تداعب رمل الشاطىء في الجنوب، في كل جرس يقرع في كسروان، في كل آذان يوقظ المؤمنين من البسطا الى الصرفند، في كل حلم طفل يولد، في كل حلم بلبنان أفضل. صحيح أنه كان مفعماً بالرضى والتواضع، وصحيح أنه وضع لنا نقطة على أول السطر: “قلنا ما قلناه”، أي اذهبوا وإعملوا، ولكن ليس صحيحاً، أنه على طريقة معلمي كامل مروة “قال كلمته ومشى”، لا البطريرك صفير صعد الى ربه لكنه ترك ظلّه ليبقى لنا في لبنان ضوء!