إذا كان طبيعياً ان تواكب الدلالات الرمزية الدينية والدنيوية رحيل رجالات يصنفون في خانة صناع التاريخ فليس غريباً والحال هذه ان يكون قلب هذا الكبير العظيم المنتقل الى عالم الخلود قد أبى حتى اللحظة الاخيرة الا الدلالة على معدن صاحبه الاستثنائي. قاوم قلب نصرالله كما قلب المقاوم الشجاع الهرم ولم يشأ الا الوداع المهاب لأحد عظماء ذاك اللبنان الذي صنع الكثير من قيمه أحد أعظم بطاركة الموارنة الذي طبع العقود الاربعة الاخيرة من تاريخ لبنان وأقله حتى استقالته بطابعه الفذ. أسلم البطريرك الماروني السابق الدائم الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الروح قبل أيام ثلاثة فقط من بلوغه الـ99 من العمر في مفارقة زمنية شاءتها الاقدار لصاحبها في رحلة احتضاره ومن ثم انتقاله الى عالم الخلود لإثبات ما أفنى حياته الرهبانية في التبشير به من تسليم مطلق بالعناية الايمانية الإلهية وهو الذي جعل العظمة رديفة للبساطة والكبر صنو التواضع المنسحق والتسليم بمشيئة الرب فعل حياة وممارسة وقول وفعل في كل آن.

هذا الراحل المنتقل الى جوار القديسين وهو في نظر كثيرين من المؤمنين بسيرته والشغوفين بكل ما أنجزه وحققه وجسده أقرب الى القداسة، طغى على نفسه بنفسه حين تحول اكبر رموز لبنان الحديث بعد الاستقلال الاول، وبعد أقرب البطاركة تيمنا به أي البطريرك الياس الحويك صانع لبنان الكبير، في قيادته لأعظم انتفاضات الاستقلال والحريات والسيادة التي أدت الى تحقيق اعظم أهدافه اطلاقاً في تحرير لبنان من الوصاية السورية عقب انتهاء الاحتلال الاسرائيلي.

ليس غريبا على أي من البطاركة الموارنة المتعاقبين منذ قرون على السدة البطريركية نهج تاريخي ثابت ومستدام ومتأصل في الاستماتة في الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله لأن هذه الثوابت هي صنو اللبنانية الاستقلالية التي ما كان للموارنة هذا الحضور المتألق في وطن الارز لولا تعاقب رسالتهم في الدفاع عنها. ولكن مع نصرالله بطرس صفير اكتسبت الدلالة قيمة متمايزة وصلابة مذهلة فانبرى منذ إطلاقه الشرارة الكبرى للتحرر من الوصاية السورية الى لغة التوحيد والوحدة اللبنانية صنوا للتحرر الشامل من الاحتلالات والوصايات وما تراجع قيد انملة ولا هادن ولا ساوم. أعظم ما ميزه اطلاقاً انه جمع مع بساطة ابن ريفون عظمة البطريرك القائد لحركة شعب برمته. ربما ليس هناك سواه من تجرأ على اسقاط اي مساومة على الحرية. قالها مرة للتاريخ انه بين العيش المشترك والحريّة يختار الحرية. ولو لم يكن مار نصرالله بطرس صفير بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة في مطلع الألفية الثانية لما كانت إحدى اعظم الانتفاضات الاستقلالية السيادية قد حصلت بالشكل والمضمون والنتائج والتداعيات التي أدت اليها بفضل شجاعته وإقدامه وانتصاره الحاسم غير القابل للمساومة للحق البديهي للشعب اللبناني في الحرية والاستقلال. واكثر، فان انطلاقة الشعلة الاستقلالية التي أضاءها وأشعلها في النداء الاول للمطارنة المطارنة في أيلول 2000 لم تكن إلّا استكمالاً منهجياً في سيرته الفذة التحررية التوحيدية بعد دوره الحاسم مع شريك كبير لبناني توحيدي هو الرئيس حسين الحسيني في اعداد العدة الجوهرية الاساسية لاتفاق الطائف بنسخته اللبنانية الأصلية قبل ان تعبث به أظافر المؤامرات والمصالح والأطماع المتنوعة خارجياً وداخلياً. و”النهار” التي كانت ولا تزال وستستمر تفخر فخراً عظيماً بما كان البطريرك الكبير الراحل يكنه لها من تقدير لرسالتها الصحافية والفكرية والثقافية والوطنية ترجمه دوماً بدفء علاقته مع عميدها الراحل غسان تويني والشهيد جبران تويني، تعتبر ان خسارتها الكبيرة بفقده خاصة واستثنائية. عظيم البطاركة، اذكرنا في عليائك.