في الخامس والعشرين من شهر نيسان الفائت، نشرت "المدن" تقريراً بعنوان "الدولة تلجأ إلى "اليونيفيل" بحثاً عن تسوية مع إسرائيل". كان ذلك أثناء زيارة وزير الدفاع، الياس بو صعب، إلى الجنوب ولقائه مع قوات الطوارئ الدولية، وبعد اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، والذي خصص للبحث في ترسيم الحدود وضبطها. قبل أيام، جالت السفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد على الرؤساء الثلاثة، حين سلّمها رئيس الجمهورية ميشال عون، رسالة تتضمن قبول لبنان بآلية موحدة لترسيم الحدود البرية والبحرية. تلك الرسالة أشارت إلى وحدة الموقف اللبناني من هذا الملف، خصوصاً لجهة التلازم بين الترسيم البرّي والبحري، وهذا يعدّ تطوراً لافتاً في هذا الملف.

تكامل الترسيم

الموقف اللبناني الموحد حيال ها الملف، مؤشر إلى تطور بارز، ولا يمكن فصله عن التطورات الحاصلة في المنطقة، وفي قراءة لبنود الرسالة، يمكن تسجيل ملاحظات عديدة حول بعض التراجع في الموقف اللبناني مقابل تراجع أيضاً في الموقف الأميركي. فلبنان حقق مبدأ التكامل بين الترسيم البري والبحري، كما كان يطالب حزب الله والرئيس نبيه برّي، بينما أميركا فرضت نفسها وسيطاَ لا بديل عنه في رعاية عملية التفاوض والترسيم، بينما كان لبنان يطالب بحصر المهمة بالأمم المتحدة واستبعاد الأميركيين.

وعليه، فإن الرسالة تتضمن، أن ترعى الأمم المتحدة آلية التحكيم، وحل النزاع الحدودي، مقابل أن تتم عملية الترسيم بشكل متكامل ما بين البر والبحر، على أن تتولى واشنطن التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل، لإنجاز هذه المهمة وإيجاد صيغة ملائمة للطرفين، لحلّ هذه المشكلة التي تدعي فيها إسرائيل سيادتها على جانب من المياه الإقليمية اللبنانية.

إشارات إيرانية وخط هوف

لا شك أن هناك تطورات سياسية عديدة ليس محصورة بلبنان هي التي فرضت هذا التغيّر في الموقف اللبناني، فكان لافتاً أن الموافقة على الرعاية الأميركية لعملية الترسيم جاءت بالتزامن مع انسحاب الحوثيين من عدد من الموانئ في اليمن لا سيما ميناء الحديدة، ما قد يؤشر إلى رسائل إيرانية للولايات المتحدة الأميركية لتجميع نقاط التفاوض. في الشكل، لم يظهر حزب الله أي تراجع في ظل توحيد الموقف اللبناني، فهو كان يصرّ على التلازم ما بين الترسيم البري والبحري، مع فارق الموافقة على ان تكون واشنطن هي الجهة الراعية لذلك. ما يعني إعادة إحياء اللجنة الثلاثية بين لبنان، إسرائيل والأمم المتحدة، وسط حضور الجانب الأميركي ورعايته.

تعتبر بعض المعلومات ان من تراجع أيضاً هو الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل، اللذان كانا مع فصل الترسيم ما بين الحدود البرية والبحرية، وموافقة الأميركيين على توقيع الترسيم البري مقابل تأجيل البحري. وحتى في مرحلة أخرى كان لباسيل موقف بأنه ليس بالضرورة انتظار الأمم المتحدة، وكان لا بد من إيجاد صيغة مع الأميركيين، بينما بري وحزب الله كانا يرفضان ذلك ويصران على استكمال المسار البري مع البحري، وبرعاية الأمم المتحدة. وهنا أيضاً لا بد من تسجيل تراجع من جهة الأميركيين، لجهة الموافقة على التلازم بين الترسيمين. لكن التراجع الأميركي لا يبدو جوهرياً، إذ أنه وعلى الرغم من حصوله، إلا أن واشنطن عادت إلى نقطة سابقة كانت قد طرحتها هي، وتتعلق بعمق الترسيم وليس بالشكل. فالتراجع يظهر فقط في اعتبار أن ساترفيلد قال سابقاً بأنه يرفض رعاية الأمم المتحدة لهذه العملية، لتعود واشنطن وتوافق عليها، أما في جوهر القضية، فواشنطن ستبقى على موقفها المتعلق بالترسيم وفق خطة هوف.

جلد الدب

وحسب ما تكشف مصادر متابعة، حول الحدود البحرية، فإن الجانب الأميركي كان قد دخل في مفاوضات مع وزير الخارجية جبران باسيل قبل فترة، وركّز الأميركيون على وجوب عدم وضع العوائق أمام عملية الترسيم، لأن الجميع يستعجل الذهاب إلى إنجازه تمهيداً للتنقيب عن النفط، بما يعود بالفائدة الاقتصادية على مختلف الدول المتنازعة. وحسب تلك المفاوضات فإن الطرح الأميركي انطلق من مبدأ عدم وضع موانع استباقية لأي تفاوض، خصوصاً بما يتعلّق بمساحة 360 كلم مربع في البحر، ويقول الطرح الأميركي:" لماذا يبدأ الخلاف على جلد الدب قبل اصطياده، فقد تكون هذه المساحات خالية من النفط، وبالتالي لن تعود ذات أهمية بالنسبة لأي من الطرفين، وعليه فليبدأ الترسيم وعند تأكيد اكتشاف النفط في هذه المساحة، وحسب الكمية الموجودة في تلك المساحة يتم إيجاد صيغة تلائم الطرفين". وكذلك ينسحب الاتفاق على آلية العمل على استخراج النفط والغاز من هذه الحقول المتنازع عليها.

العامل السوري

هذا المسار، سيكون بحاجة إلى المزيد من الوقت لبلورته، ولكن للدخول إلى بعض تفاصيله ومضامينه، لا بد من الربط بين عملية الترسيم هذه، ومزارع شبعا، والتي أثار موقف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط عاصفة حوله، حين اعتبر أنها بموجب القانون ووفق وثائق الأمم المتحدة غير معترف بلبنانيتها. وربما هذه التطورات قد تكشف ما رمى إليه جنبلاط يوم أطلق مواقفه، خصوصاً أنه تعمّد إطلاق الموقف على قناة روسيا اليوم، والتي لا بد من ربطها بدخول الأميركيين على الخطّ وعدم ترك مبادرة الترسيم محصورة بموسكو. وبما أن عملية الترسيم متلازمة ما بين البرّ والبحر، فيعني أن ترسيم الحدود البرية ستكون مرتبطة أيضاً بتحديد مزارع شبعا وإثبات لبنانيتها.

وإذا لم يقدّم النظام السوري هذه الإثباتات فإن مفاوضات الترسيم هذه برعايتها الأميركية قد تذهب إلى المطالبة بضم شبعا إلى الجولان، وإبقائها خاضعة للقرار 242 وعدم ضمها للقرار 425. وهذا يعني أن عملية الترسيم لا يمكن لها أن تنجز من دون مشاركة سوريا بشكل أو بآخر. هذا بالضبط ما يثير مخاوف عديدة لدى الأمم المتحدة، التي تعتبر أن الإشكالية البرية بين لبنان وسوريا على ترسيم الحدود تتخطى الألف كيلومتر مربّع، ولا بد أن تكون هذه الاختلافات موجودة حول بعض المناطق البحرية أيضاً، خصوصاً في شمال لبنان، حيث هناك بعض البلوكات النفطية في البحر. وكانت روسيا سابقاً قد منحت لبنان ضمانات شفهية بتسهيل النظام السوري لعملية الترسيم، تمهيداً لاستخراج النفط اللبناني. لكن هذه المعادلة قد تتغير في ظل عودة الأميركيين إلى رعاية المشهد بكامله.