أي رمزية شاء القدَر أن يحملها بغياب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير؟ لقد رحل البطريرك الذي وُلِد مع لبنان الكبير، في العام 1920. وجاء الرحيل في لحظات تختلط فيها الآلام بالآمال حول مصير ذاك «اللبنان»، وحول ما إذا كان سيبقى كبيراً بالفعل...
 

لبنان الكبير، ذاك، هو نفسه ثمرة جهدٍ بذله البطريرك السلف، الياس الحويك. كان هاجسه آنذاك أن يخرج الموارنة والمسيحيون من عزلتهم في جبل لبنان إلى لبنانٍ كبيرٍ يضمن لهم عدم تكرار تجربة المجاعة التي كانت بمثابة إبادةٍ (مقصودة أو غير مقصودة) لثلث أهل الجبل!

لبنان، ذاك، أرادَتْه البطريركية ضماناً للموارنة والمسيحيين، ولكن أيضاً مساحةَ لقاء فريد من نوعه بينهم وبين المسلمين. وليس سرّاً أنّها قايضت الغالبية العددية بهذا الضمان. فالمسيحيون كانوا غالبية ساحقة في الجبل، وصاروا دون الـ60% في لبنان الكبير 1920، وانقلبوا إلى 40% اليوم.

مخاض الشرق الأوسط عنيف ومستمر. ومعه يطرح الجميع أسئلة جديدة عن ضماناتهم: هل إن لبنان الكبير، ذاك، ما زال يشكّل للموارنة، والمسيحيين عموماً، ولكل المجموعات الأخرى، طائفية ومذهبية وسياسية وثقافية، ضماناً لهم كما كان آنذاك…

في الطريق الصعبة التي مشى فيها اللبنانيون منذ أكثر من نصف قرن، الأشبه بالمرور في وادي الدموع، كثيرٌ منهم طرَحَ أسئلة حول المصير. ولا بدّ أنهم مرّوا بساعات كثيرة من «التخلّي» تلتها ساعات من «التجلّي»: نريد لبنان، ذاك، أو لا نريده!

الأمر طبيعي. فحتى رجال الدين الخُلَّص لأديانهم يمرّون أحياناً في لحظات إلحادٍ أو تشكيكٍ أو ظُنون… ثم يعودون… وربما كثيرٌ منهم لا يعود إطلاقاً كما كان.

هكذا… يبدو رحيل بطريرك لبنان الكبير مناسَبةً مؤاتيةً جداً لطرح السؤال عمّا إذا كان ذاك اللبنان هو أيضاً في طريق الرحيل… وهذا السؤال يجدر طرحُه أيضاً مع رحيل كل الكبار من علماء ومفكرين وشعراء وفنانين يمثّلون ذاك اللبنان، من شارل مالك والأخوين رحباني وصباح ووديع الصافي إلى أنسي الحاج وموريس عواد… وعذراً لعدم وجود متّسع لذكر الجميع.

البطريرك صفير هو واحدٌ من حبّات «المسبحة» العظيمة المعلَّقة على عنق لبنان الكبير. «فقَعَت» «المسبحة» و»هَرَّت» حَبّاتها طبيعياً وبفعل الزمن. «كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت».

التحدّي ليس في رحيل الكبار، بل في أن يَستولدوا آخرين. أن تكون هناك «مسبحةُ» إيمانٍ بلبنان، حبّاتُها جديدةٌ وقابلةٌ للحياة مئة عام أخرى.
وفي عبارة أخرى، هل سيحظى لبنان الكبير بمن يدافع عنه؟

أي، هل سيعيش لبنان الكبير، ذاك، مئةَ عام أخرى…

هذا هو المكان الذي يمكن أن يبكي فيه اللبنانيون فعلاً، لا سواه… ولو كان البطريرك صفير على قيد الحياة وعاش التجربة، لكان بكي هنا، لا في مكان آخر...

رحمة الله على البطريرك. كتب الله عمراً جديداً للبنانه الكبير.