في 25 آذار 2011 سلّم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الأمانة إلى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، وفي 12 أيار 2019 سلّم روحه الى الله، وما بينهما كان خارج المسؤولية البطريركية التي مارسها لربع قرن بين عامي 1986 و2011.
 

تكللّت حبرية البطريرك صفير بإنجازات عدة دينية ووطنية، وسيحفظ التاريخ كثيراً من مواقفه التي تجسِّد عمق إيمانه بالحرية والشراكة الحقيقية والسيادة والاستقلال، لكنّ الإنجاز الأبرز الذي طبع مسيرته الوطنية تمثّل بتغطيته «اتفاق الطائف» من أجل إنهاء الحرب اللبنانية وقيادته السفينة حتى إخراج الجيش السوري من لبنان.

فالاستقلال الثاني الذي كان يفترض ان يتوّج مع «اتفاق الطائف» من خلال تجديد اللبنانيين اتفاقهم الميثاقي والكياني تأخّر من العام 1989 حتى العام 2005، ولم يهُن على البطريرك صفير ان يكون قد خُدِع بتراجع بعض من في الداخل والخارج عن التزاماتهم بتطبيق «وثيقة الوفاق الوطني»، او ان تكون ظروف المنطقة تبدلّت بين لحظة توقيع الاتفاق ولحظة ترجمته على أرض الواقع، فقاد مواجهة ثأرية بمفعول رجعي وصولاً الى إخراج الجيش السوري من لبنان.

صفير هو بطريرك الاستقلال الثاني بامتياز من رعايته «اتفاق الطائف» إلى مساهمته الأساسية في إخراج الجيش السوري من لبنان، ومن كان يتصوّر أساساً انّ هذا الجيش سيخرج من لبنان، بل كل التقديرات كانت أنّ لبنان دخل في عصر السورنة الذي لن يقل زمنياً عن عصر العَثمنة، وقوة البطريرك وحكمته انّه وَقّت انتفاضته على الوصاية أو الإحتلال مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.

فكل نظرية بقاء الجيش السوري كانت مرتبطة ببقاء الجيش الإسرائيلي، ولم يكن يظنّ النظام السوري يوماً انّ هذا الجيش سيخرج من لبنان، بل بَنى كل سياساته على قاعدة ان جنوب لبنان سيكون نسخة طبق الأصل عن الجولان، وبالتالي بقاء الإسرائيلي يبرر حكماً بقاء السوري، وأي مطالبة بإخراج السوري في ظل استمرار الإسرائيلي كانت تواجه بالتخوين. أما وقد انسحب الإسرائيلي فسقطت الحجة الأساس التي استند إليها نظام البعث لتحقيق مشروعه العقائدي بضَم لبنان إلى سوريا سياسياً في انتظار الظروف التي تسمح له بضَمّه جغرافياً.

وقد أمهل البطريرك صفير النظام السوري من تاريخ الانسحاب الإسرائيلي في 25 أيار من العام 2000 حتى 20 أيلول من العام نفسه، وعندما رأى انّ هذا النظام ليس في وارد رفع وصايته عن لبنان أطلق البيان الرقم واحد، البيان النداء الأيلولي الأول الذي ارتكز على جملة مفتاح وهي انه مع خروج الجيش الإسرائيلي حانَ الوقت لخروج الجيش السوري عملاً بالقرار 520 وبـ«اتفاق الطائف». ورفض النداء كل الحجج التي تقول انه «إذا انسحب الجيش السوري من لبنان، قامت فتنة فيه، أو انّ وجوده أصبح جزءاً لا يتجزأ من السلم اللبناني، أو أنه ينسحب إذا طلبت منه الحكومة اللبنانية الانسحاب»، واصفاً إيّاها بالحجج الواهية التي عمل على إسقاطها الواحدة تلو الأخرى من خلال قيادته المباشرة لمعركة الاستقلال الثاني، ورعايته غير المسبوقة في تاريخ البطريركية المارونية للقاء سياسي عُرف بـ«لقاء قرنة شهوان».

ولم يأبه البطريرك صفير للانتقادات التي كانت توجّه إليه من أنه يميِّز بين أبناء رعيته من خلال رعايته للقاء سياسي، حارماً هذه الرعاية على لقاءات أخرى أتت إليه معترضة وطالبة رعايته ومساواتها بغيرها، فكان يؤكد ويشدد ان «لا تمييز دينياً ورعائياً بين أبناء الرعية الواحدة، ولكن لكل من يطلب الرعاية الدينية-الوطنية عليه ان يتبنى أفكاري وتوجهاتي الوطنية والسياسية كما فعل «لقاء قرنة شهوان»، فلا رعاية على قاعدة 6 و6 مكرر، ولا رعاية على طريقة «تبويس اللحى»، إنما للرعاية شروطها الوطنية، ومن يحبّ فأهلاً وسهلاً به شريطة ان يتبنّى النداء الأيلولي كدستور وخريطة طريق لعمله الوطني».

فلا نقاش مع صفير في معركته من اجل الاستقلال، ولا مساومة ولا تساهل ولا تراجع، وكان حاسماً في خطابه وتظليله كل من قرر ان يخوض معركة الاستقلال تحت مظلة بكركي التي نجحت في توحيد الجسم السيادي المسيحي، وتجسير العلاقات مع المسلمين إسقاطاً لنظرية النظام السوري أنّ انسحابه من لبنان يؤدي إلى عودة الحرب الأهلية، فكانت مصالحة الجبل التي شَقّت الطريق نحو اللقاءات مع تيار «المستقبل» وصولاً إلى مصالحة انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005، فإخراج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005.

وإذا كان إخراج الجيش السوري من لبنان غير ممكن من دون تبلور ظروف خارجية مؤاتية، فإنّ إخراجه غير ممكن ايضاً من دون تبلور ظروف داخلية مؤاتية، وهذه الظروف بالذات التي عمل صفير على تهيئتها من خلال توحيد الحركة السيادية والتي من دونها كان، ربما، فَوّت لبنان على نفسه الـ momentum الخارجي، وبالتالي لولا صفير لما خرج الجيش السوري من لبنان، ولا كان لبنان انتزع استقلاله الثاني.

فالبطريرك صفير هو بطريرك إنهاء الحرب ورعاية «اتفاق الطائف» وإخراج الجيش السوري من لبنان، وهو بطريرك السيادة الرافض وجود اي سلاح خارج إطار الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية، وهو بطريرك العيش المشترك بإصراره الدائم على المصالحات والانفتاح والمساواة والشراكة المسيحية-الإسلامية الحقيقية، ومرافقته البابا بولس يوحنا الثاني الذي قال جملته الشهيرة وهو الى جانب صفير «لبنان وطن الرسالة»، وهو بطريرك الحرية التي تعلو ولا يُعلى عليها وهو القائل «لو خُيّرنا ما بين العيش المشترك والحرية، لاخترنا الحرية»، لأن لا عيش مشتركاً بلا حرية، والعيش المشترك هو نتيجة اقتناع اللبنانيين بالعيش معاً في تجربة إنسانية نموذجية لا يمكن ان تتحقق بلا حرية.