“دمقرطة الدّولة دمقرطة المجتمع”، شعار سبق أن رفعته إحدى المنظمات اليسارية بالمغرب خلال مطلع سنوات الثمانين من القرن الماضي.

كان مقصود العبارة أنّ الدولة الديمقراطية لا يمكنها أن تقوم على أساس مجتمع غير ديمقراطي. إذ لا بدّ من التكامل بين دور المناضلين الذين يكافحون لأجل دمقرطة الدولة، ودور المثقفين الذين يكافحون لغاية دمقرطة المجتمع.

لا يمكن أن تقوم دولة الحق والقانون والمؤسسات على أساس مجتمع غارق في أوحال القدامة، تتفشى فيه قيم الهيمنة الذكورية، وتستشري فيه ثقافة تقديس السّلف، والولاءات العشائرية، والتعصّب للرّأي، وما إلى ذلك من أمراض ثقافية تنخر التصورات المشتركة، تفسد السلوك المدني، تعيق سيرورة التمدّن، وتهدد العيش المشترك. في واقع الحال يتعلق الأمر بخطين إصلاحيين متوازيين: خط يروم إصلاح الدولة كرهان سياسي، وخط يروم إصلاح المجتمع كرهان ثقافي.

عادة ما يسمى إصلاح الدولة بالإصلاح السياسي، ومجالاته هي الدّستور والقوانين والسلط والمؤسسات إلخ، وعادة ما يسمى إصلاح المجتمع بالإصلاح الثقافي، ومجالاته هي القيم والسلوك والعادات والتقاليد والأعراف إلخ.

تختلف البؤرة المحورية للجهد الإصلاحي من مجتمع إلى آخر. مثلا، في مجتمع يسيطر فيه الحاكم المطلق أو الحزب الأوحد على كافة السلط، تكون البؤرة المحورية في معركة الإصلاح السياسي هي الإصلاح الدّستوري. وكذلك، في مجتمع يكون فيه نمط التديّن المتأخر مهيمنا على كل شيء، تكون البؤرة المحورية لمعركة الإصلاح الثقافي هي الإصلاح الديني، وهكذا دواليك، بحيث تبدو محاور الإصلاح نسبية ومتغيرة في آخر المطاف.

لكن، أيا كانت البؤرة المحورية للإصلاح الثقافي المنشود اليوم، والهادف إلى إصلاح المجتمع، فإن دور المثقفين التنويريين لا محيد عنه ولا بديل. ولا بأس من التذكير ببعض البداهات المنسية.

إن المثقف التنويري ليس بمعارض ولا بمساند للسلطة؛ لأنّ أفق المعارضين والمساندين على حد سواء يبقى دائما هو السلطة. تحديدا، يمكننا أن نعتبر المثقف التنويري بمثابة ناقد عمومي. دوره ليس أن يهيّج الناس لأجل طاعة الحاكم أو الخروج عنه كما كان دأب الفقهاء على مر التاريخ، وإنما دوره تغيير نمط التفكير المجتمعي والذي قد تكون السلطة نفسها جزءا من أجزائه أو ثمرة من ثمراته. ولأن التغيير يجب أن يكون نحو الأفضل، فإن الجهد الإصلاحي يتطلب من المثقف التنويري الاتصاف بثلاث خصال ضرورية:

أوّلا، الزهد الكامل: بحيث يجب عليه ألا ينشغل بمغريات المال والسلطة والنجومية على حساب التفرغ الكلي للقيم والأفكار والمفاهيم والتصورات، وهذا بصرف النظر عن مآلاته الشخصية. إن القدرة على ممارسة التفكير هي أيضا قدرة على التحلي بقدر كاف من الزهد. في هذا المطلب جانب دراماتيكي بلا شك، لكنه العنصر الأساسي في كينونة وتكوين المثقف التنويري.

ثانيا، التواضع التام: بحيث يجب عليه أن يتحلى بالذكاء العاطفي/ التواصلي، فيتحاور بشغف مفتوح، ويتفاعل بسلاسة مع عموم الناس. إن القدرة على تحسين قدرة الناس على التفكير النقدي هي أيضا قدرة على الإنصات للجميع، والتحاور مع الجميع، ومحبّة الجميع.

ثالثا، التجرّد النهائي من الانفعالات السيئة: بحيث لا يمكن للمثقف التّنويري أن يبني تحليله ورؤيته على أساس الغضب أو الحقد أو الثأر أو أي شكل من أشكال ردود الفعل الانفعالية. إن الانفعالات السلبية هي الحاجز الأكبر أمام الاستعمال العمومي للعقل.

في واقع الحال، حين يتخلى المثقف عن وظيفته في إصلاح المجتمع، فحينها يصبح النضال من أجل إصلاح الدولة بمثابة حرث في البحر. لأن الأصل في المعادلة أن الدولة الديمقراطية لا تقوم داخل مجتمع متأخر. هنا لا يتعلق الأمر بسؤال أسبقية إصلاح المجتمع على إصلاح الدولة، أو العكس، وإنما يتعلق الأمر على وجه التحديد بالتكامل بين كلا الخطين: خط المناضل السياسي، وخط المثقف التنويري.

في المغرب انهارت تلك التجربة التنظيمية التي سبق لها أن رفعت شعار “دمقرطة الدولة دمقرطة المجتمع”، انهارت لسبب جوهري: معظم مثقفي التجربة هجروا الثقافة وانخرطوا في السياسة، سواء عبر تأييد السلطة أو معارضتها. ثم ظنوا بعدها أنهم بواسطة أدوات السلطة أو عبر احتجاجات الشارع، يمكن تحقيق الأهداف. لقد اعتبر الجميع أن السياسة هي المدخل الرئيسي. ما يعني تعطيل وظيفة المثقف التنويري.

بلا شك فإن حجم المقاومة الثقافية الشرسة التي تعرض لها بعض المثقفين ممن انخرط في أركان الدولة، وفتح ورشات إصلاحية حقيقية في بعض المجالات وفق نظرية استعمال مؤسسات الدولة لتحديث المجتمع، كان دليلا كافيا على أن تخلي المثقف النقدي عن مهمة التنوير العمومي قد يتيح “للجهل المقدس” وسائل تعطيل التنوير، في حين أن انشغال مثقفين آخرين بموضوع مجابهة سلطة الدولة، قد جعلهم في بعض الأحيان حلفاء موضوعيين “للجهل المقدس”.

إن “الجهل المقدس” الذي يستنفر الغوغائيات ويهيج الانفعالات السلبية يضع اليوم المثقف التنويري أمام خيارين: إما دعم جهود الدولة حين تحاول الدولة أن تفرض التحديث بالقوة على المجتمع، مثلما فعل أتاتورك وبورقيبة على سبيل المثال؛ وإما الانخراط في مجالات التنوير العمومي لغاية تحديث العقليات، بصرف النظر عن الموقف من السلطة. أعتقد أن الاختيار الثاني هو المطلوب الآن، لا سيما في زمن ثورة تقنيات التواصل الأفقي.

نفس المآل سيتكرر بمناسبة ما كان يعرف بالربيع العربي، انحياز بعض المثقفين كليا لمعركة الحسم السياسي. وتلك هي الخطيئة التي اعترف بها ميشيل كيلو نفسه وهو ينعي “الثورة السورية” نعيا أثار جدلا واسعا. لكن الأساس الذي كان الجميع ينساه منذ البداية أن الدولة الديمقراطية لا تُبنى فوق مجتمع غير ديمقراطي. تحتاج معركة دمقرطة المجتمع إلى المثقف التنويري الذي لا ينجذب كليا إلى مغريات الحسم السياسي، سواء أكان مؤيدا في أساسه أم معارضا بالأساس.

وبالفعل، جراء الحماسة الثورية الزائدة التي أثارتها ثورات “الربيع العربي” المغدورة، انتهى عدد من المثقفين العرب إلى اختزال معركة النهوض الحضاري في المستوى السياسي حصرا، بل اختزلها بعضهم في جانب واحد ووحيد من السياسة، ألا وهو إسقاط الحاكم على وجه التحديد، حتى أن البعض بشرنا بأن سقوط الاستبداد كاف لكي تنتهي كل مشاكل الإرهاب والفتنة والطائفية! وهذا اختزال خطير وبالغ الضرر لأنه يترك عناصر التخلف الثقافي في منأى عن أي نقد أو انتقاد.

فلا مشكلة في الموروث الفقهي القديم المتغلغل، ولا مشكلة في الحقد الطائفي المستفحل، ولا مشكلة في النظرة الدونية إلى المرأة، ولا مشكلة في تعطيل العقل، إلخ، بل ستُحل كل المسائل وتزول كل المشاكل منذ الوهلة الأولى لسقوط الاستبداد! بل الأدهى من كل ذلك، لقد جعل بعض المثقفين الثوريين عناصر التخلف حليفا ولو مؤقتا في المعركة لإسقاط هذا الحاكم أو ذاك. والجدير بالملاحظة أنه في غمرة الحماسة الثورية قد ينسى البعض درس ميشيل فوكو، وهو درس بالغ الأهمية.

السلطة من وجهة نظر فوكو ليست محصورة في مكان معين، أو داخل مربع محدد، إنما هي روح ثقافية تسري في كل العلاقات الاجتماعية والتفاصيل اليومية. معركة المثقف التنويري إذن هي معركة تغيير تلك الروح الثقافية. وأثناء ذلك الجهد التثقيفي يصبح إصلاح الدولة ممكنا.

في المقابل، يُخطئ من يظنّ بأنه قد يحارب التطرّف الديني عن طريق دعم الاستبداد السياسي، أو الحزب الوحيد، أو إلغاء الحريات الفردية؛ يُخطئ أيضا من يظنّ بأنه يستطيع أن يقاوم الاحتلال الخارجي عن طريق الاستبداد الشمولي، وتقديس الزعامات، وإلغاء الحريات، واحتقار المرأة.

المعركة ضدّ التطرّف الديني، أو ضدّ الإرهاب، أو ضدّ الاحتلال، هي نفس المعركة بمختلف جبهاتها، معركة الحداثة السياسية في كل مناحيها وأنحائها. ذلك أن الحداثة مرحلة لا يُدرك بعضها دون بعضها الآخر. الحداثة روح تسري، ورياح تجري، وصيرورة تمضي، وعالم متجدد في كل تفاصيله وبلا انقطاع، إما أن نكون فيه، وإما سنبقى على قارعة التاريخ، نتسكع أحيانا، ثم نُعربد بين الفينة والأخرى.