الأزمة في العراق مكشوفة للولايات المتحدة لأن النظام السياسي ليس بإمكانه أن يصنع دولة ذات سيادة بقرار.
 

تناغم البيان الرئاسي الصادر عن رئاسة جمهورية العراق مع بيان مجلس الوزراء، بعد الزيارة الطارئة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في تأكيدهما على استمرار الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والتزام العراق بسياسته المتوازنة في بناء جسور الصداقة والتعاون مع الأصدقاء والجيران ومنهم إيران، وأن بغداد مكان التقاء وليس فضاء صراع. وفي البيانين إشارات إلى مساعي بسط الأمن وجلب الاستثمارات وسعادة الوزير الضيف بقرار دعم مساعي وزارة النفط للاتفاق مع شركة “إكسون موبيل” الأميركية.

التنسيق بين مكاتب الإعلام في الرئاستين لإخراج صيغة التناغم والتعاطي بهدوء مع مبررات زيارة بومبيو في ذروة الطوارئ بين الولايات المتحدة وإيران تبلور صورة النظام السياسي وكيفية إدارته المرتبكة وغير المتوازنة أولاً في علاقته مع الملايين من أبناء العراق، حيث لامبالاة ولا مصارحة، بما ظهر منها في اختيار أزياء موحدة لمفردات دبلوماسية يمكن تداولها في أعقاب أي زيارة تقليدية لوفود رسمية.

وزير الخارجية الأميركي قطع زيارته لدولة أوروبية وتوجه إلى بغداد لساعات معدودة، بعد أنباء من مصادر استخباراتية عن تحركات واستعدادات الحرس الثوري وأذرعه الميليشياوية داخل العراق لشن هجمات على المصالح الأميركية، بما تعنيه من مقرات دبلوماسية أو قواعد عسكرية أو شركات، وفي ثنايا الزيارة إبحار لحاملة الطائرات “أبراهام لينكولن” برفقة عدد من البوارج الحربية مع قرار بإرسال 4 من القاذفات الاستراتيجية نوع “بي 52″ الأكثر تأثيراً في الحرب الجوية. تحت ظل هذه الوقائع لا يمكن لأي مصدر إعلامي رسمي تجاهل مبررات الزيارة الخاطفة والتعامل معها بمنطق الترويج خدمة للمؤسسة التي ينتمي إليها.

ما قاله رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي عن قدرة حكومته على حماية المصالح الأميركية وتبذير وعوده للوزير بومبيو، يرسخ القناعات لدى الإدارة الأميركية بطبيعة تلك الوعود من خلال تصريحات الوزير أثناء زيارته عندما تحدث عن تصعيد الأنشطة الإيرانية وتناقل المعدات على أرض العراق، وكذلك بما عبر عنه من رغبة أميركية في استقلال القرار العراقي عن إيران.

بالإمكان معرفة دوافع النظام الإيراني من وراء سياسة الاستخفاف أو الاستهزاء بالتهديدات الأميركية أو تبريرها على الأقل ولو على مستوى العلاقة بين نظام ولاية الفقيه والشعوب الإيرانية، نظراً لاقتراب خط الفقر من نسبة 50 بالمئة، في وقت أعلنت فيه السفارة الأميركية في بغداد عن حجم ثروة المرشد الإيراني علي خامنئي البالغة 200 مليار دولار.

يبدو أن هذه المفارقة استفزت ولاية الفقيه وفصائل الحرس الثوري في العراق وأيضاً الأحزاب المنتمية في ولائها للمرشد بما أطلق العنان لردة فعلها في مظاهر مسلحة يراد لها أن تكون مجهولة، وتحرش غير محسوب النتائج وضمن رصد الاستخبارات الأميركية لتكراره وتذبذب مناسيبه، ارتفاعا وانخفاضا، قياساً لصلته بالسياسة الإيرانية ومتطلباتها.

التهديدات الأميركية طالت الحرس الثوري وتنظيمات الفصائل التابعة له، إضافة إلى القوات النظامية، جوية أو برية أو بحرية، بما أن النظام الإيراني يراهن على قواته البحرية في إيصال رسائله الدعائية إلى الولايات المتحدة كما حصل في مهمة إرسال مدمرة إيرانية إلى مياه الأطلسي، مع ما رافقها من تصريحات إيرانية عن قدرة سلاح البحرية في الوصول إلى مقتربات المياه الدولية للولايات المتحدة في استعراض لضربات ممكنة بصواريخ باليستية بلغ مداها وفق البيانات العسكرية الإيرانية 6 آلاف كيلومتر.

الرد الأميركي حينها التزم الصمت مع بعض التحليلات الإعلامية، لكن من تبنى السخرية في مبررات التجاهل الأميركي على التجرؤ الإيراني اكتشف الآن مدى جدية الإدارة الأميركية في ردود فعلها تجاه النظام الإيراني، عندما أرسلت حاملة الطائرات الأضخم على مستوى سلاح البحرية في العالم والتي وصفها النظام الإيراني بأنها مجرد عملية استبدال روتينية لحاملة طائرات بأخرى.

الأزمة في العراق مكشوفة للولايات المتحدة لأن النظام السياسي ليس بإمكانه أن يصنع دولة ذات سيادة بقرار مستقل، والسبب ببساطة يعود إلى إرادة الاحتلال الأميركي التي مزقت الهوية الوطنية، ثم تخادم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مع تنظيم الدولة في إيران للإجهاز على بقايا تلك الهوية، وبعدها جاء الدور لإطلاق سراح تنظيم داعش لاحتلال المدن المطلوبة على قائمة الإرهاب الطائفي الإيراني، لتكون معادلاً لتأسيس فصائل الحرس الثوري في العراق بغطاء من المرجعية المذهبية وتحت قانون برلماني يضمن لها الحماية من المساءلة الدولية عن انتهاكاتها الموثقة.

الحشد الشعبي، بتحركاته الأخيرة أو تحرشاته إيرانية الهوى على المستوى السياسي في البرلمان أو بإعلانه الولاء المطلق لولاية الفقيه أو بما صدر عنه من تلويح باستهداف المصالح الأميركية، يضع مصداقية الحكومة العراقية في الامتحان الصعب في تنفيذ وعودها بحماية المصالح الأميركية مع وجود قانون الحشد الشعبي الذي سبق وأن وضع فصائل الميليشيات تحت إمرة صلاحيات رئيس الوزراء.

لذلك على الحكومة تقدير خطورة الموقف في هذه المرحلة والتصرف كدولة، لكن ما يجري في العراق من استباحة لمفاهيم الدولة والمواطنة يتسق مع ما قاله الرئيس حسن روحاني الذي مازال يخاطبنا: من أنتم؟ كما تفعل ميليشياته.