يعمل الحكم الإيراني على شد العصب الداخلي في وجه الإدارة الأميركية، ولا يستبعد أن يقود الضغط أصحاب القرار في طهران إلى اتخاذ خيارات متهورة لاعتبارات أيديولوجية.
 

تتسارع التطورات بخصوص الملف الإيراني منذ بدايات هذا الشهر، ويبدو لوهلة سريعة كأن طبول الحرب تقرع في الشرق الأوسط والخليج العربي بعد تشديد العقوبات الأميركية وردة الفعل الإيرانية حيالها. لكن في هذه المنطقة من العالم التي تتلاحق فيها الحروب والنزاعات منذ ثمانينات القرن الماضي، يبقى احتمال المواجهة المباشرة والواسعة محدوداً وما التهويل والاستعراضات والتهديدات إلا من باب الردع الاستباقي أو زيادة الضغط.

لكن مع إدارة دونالد ترامب تنتقل واشنطن للمرة الأولى من سياسة رمادية لا تتجاوز ربط النزاع مع طهران، إلى سياسة هجومية تلامس الخطوط الحمراء. في المقابل تجد الصين الداعم الاقتصادي الأول لطهران نفسها في موقف حرج ولا يظهر حماسها للانحياز إلى إيران في هذا المنعطف الدقيق من حربها التجارية مع واشنطن، وينطبق ذلك على الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي والتي لا تملك الروافع الدبلوماسية والاقتصادية الكافية للتأثير في مصير اختبار القوة الأميركي – الإيراني الذي سيزداد احتداماً في الأسابيع والأشهر القادمة.

تعتبر “الجمهورية الإسلامية” أنها مارست الصبر لمدة عام ولم ترد على الخطوة الأميركية بالانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي بالرغم من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية، لكن بعد سعي إدارة دونالد ترامب تصفير الصادرات النفطية وإدراج الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب، أتى الإجراء الإيراني بالتنصل من بعض بنود الاتفاق النووي وفي ذلك رسالة مباشرة للترويكا الأوروبية.

لم تخطيء واشنطن بتوصيف هذه الخطوة بابتزاز إيراني للجانب الأوروبي، وبالفعل بعد انسحاب واشنطن من اتفاق 2015، وجدت أوروبا نفسها بين “المطرقة الأميركية” و”السندان الإيراني” بعدما تصورت نهاية الهاجس الإيراني الذي ساد منذ 1979. والآن يعود الكابوس بشكل أو بآخر مع تهديد بنذر مواجهة تخشى أوروبا من انعكاساتها على أمنها الاستراتيجي. وقد تابعت الأوساط الأوروبية تهديدات الرئيس حسن روحاني على “الطريقة الأردوغانية” بتخفيف مكافحة تهريب المخدرات وضبط حركة اللجوء وترك السيل يزحف نحو القارة القديمة.

وفي هذا الصدد يعلق مصدر أوروبي أن إيران استخدمت في الماضي ورقة الإرهاب وأوروبا منتبهة جيدا لكل خطوات طهران. أما بالنسبة للانسحاب من بندي بيع اليورانيوم المنخفض التخصيب والماء الثقيل فيحدد أحد المفاوضين السابقين في جولات فيينا أن هذا الإجراء رمزي لأن هذه المواد لا تجد من يشتريها. أما بالنسبة لمهلة الستين يوما والتلويح برفع تخصيب اليورانيوم فيحدد أحد الخبراء أن أي مغامرة بإيصال التخصيب إلى مستوى يؤهل الإنتاج العسكري تعني إنهاء الاتفاق واصطفاف أوروبا خلف إدارة ترامب.

هكذا بعد رمي الترويكا الأوروبية للإنذار- المهلة وتركيز إيمانويل ماكرون على البرنامج الصاروخي الباليستي مع تمسكه بالاتفاق النووي، تبدو المناورة الإيرانية مسدودة الأفق في رهانها القديم – الجديد على الشقاق بين الأوروبيين وواشنطن. تعتبر الأوساط الفرنسية المتابعة للملف أن الرئيس ماكرون سعى بكل جهده وفشل في إقناع ترامب بالتريث والعمل على استكمال اتفاق 2015 وسد ثغراته (تمديده بعد 2025، تطوير الصواريخ الباليستية والاستقرار الإقليمي) ولذلك رفضت أوروبا خطوته وكانت جادة في التوصل إلى آلية التفاف على العقوبات واستمرار المعاملات المالية والتجارية في بعض الميادين مع طهران، لكن لا القطاع الخاص ولا المصارف الأوروبية تجاوبت ولم يعد هناك هامش مناورة عند الترويكا.

بناء على ذلك، حاول الجانب الفرنسي مطالبة طهران بمرونة حول الملف الباليستي وحول الدور الإيراني في اليمن وسوريا ولم يكن هناك أي تجاوب إيراني ملموس. وزاد الطين بلة تورط طهران في أعمال إرهابية مفترضة ضد المعارضة الإيرانية في باريس وهولندا والدنمارك. إزاء هذه الدائرة المغلقة، زاد نفوذ الصقور داخل إدارة ترامب وازداد التوتر بين واشنطن وطهران من العراق إلى ضفاف الخليج العربي.

ومن الواضح أن إيران المنهكة داخلياً والمصرة على مكاسبها الإقليمية تراهن على عدم حرق المراحل والانسحاب على مراحل من اتفاق 2015 لكسب الوقت، وهي تعلل الآمال على عدم التجديد لدونالد ترامب كي تعود إلى خطوط الوصل مع واشنطن.

في المقابل أتى القرار الأميركي ضد تصدير المعادن الإيرانية ليشكل ضربة إضافية ويمثل تشددا في إدارة الملف بالتوازي مع نشر حاملة الطائرات والقاذفات الاستراتيجية. من الواضح أن فريق الرئيس ترامب لا يخطط للحرب الشاملة على شاكلة ما جرى في العراق في 2003 إذ لسنا أمام عدو مماثل أو ميزان قوى عالمي مماثل أو إدارة أميركية مماثلة، بل أقصى ما يمكن أن يحصل في حال قيام إيران بتحريك أذرعها في ضربات للمصالح الأميركية أو للجنود الأميركيين في المنطقة أو ضد حلفاء الولايات المتحدة، هو ضربة محدودة أميركية شبيهة بما حصل عام 1988 عندما عرقلت إيران الملاحة في المياه الدولية. لكن يمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً في مواجهة بالوكالة يكون مسرحها الأساسي سوريا وربما لبنان والعراق. بيد أن احتمالات مواجهة ما قبل بدء الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية في صيف 2020، تبقى رهينة حسابات الأطراف المعنية وقدرة بعض اللاعبين الخارجيين وأبرزهم روسيا على تفاديها أو احتوائها.

على صعيد آخر عوّلت طهران طويلاً على الصين كشريك اقتصادي واستراتيجي. وبالفعل لعبت بكين دورا كبيرا في تخفيف آثار العقوبات الدولية بحق إيران بين 2012 و2015. لكن يبدو الوضع مختلفاً في 2019 بناء على أرقام طلبيات الصين من النفط الإيراني (مقابل زيادة الصادرات النفطية السعودية إلى الصين). ومن التفسيرات الممكنة لهذا التردد الصيني عدم وجود رغبة في مقارعة واشنطن حول هذا الملف وتسخين الحرب التجارية على هذا المحور.

ولا تستبعد بعض الأوساط أن تقوم الصين بلعبة مزدوجة تقضي بالحصول على نفط إيراني منخفض السعر عبر التهريب، وكذلك تشديد التعاون العسكري السري (خاصة في مجال الطائرات المسيرة). لكن أياً كانت مواقف الصين والهند وتركيا حيال استيراد النفط الإيراني فإنها لن تحد كثيرا من فعالية الخطوة الأميركية وتصاعد تأثيرها على الداخل الإيراني مع سقوط سعر صرف العملة الوطنية والتضخم وغلاء الأسعار.

يعمل الحكم الإيراني على شد العصب الداخلي في وجه الإدارة الأميركية، لكن هناك شك بقدرته على ضبط نقمة شعبية متفاعلة منذ نهاية عام 2017. ولا يستبعد أن يقود الضغط الأقصى أصحاب القرار في طهران إلى اتخاذ خيارات متهورة لاعتبارات أيديولوجية وذاتية تتصل بتوازن القوى داخل الدائرة الأولى للحكم. وفي مواجهة إدارة دونالد ترامب سيوجد كل الإقليم على صفيح ساخن على وقع تطورات الملف الإيراني.