تتراوح المواقف المنصبة في تفسير وفهم التحولات والاضطرابات التي حصلت عقب ما سمي بالثورات العربية، ووفق التوقعات المنتظرة منها، بين اعتبارها ربيعاً من جهة والقول بأنها شتاءٌ قاسٍ من جهة أخرى.

 

فالبعض راهن على انبثاق حتمي للحظة التحول الموعودة للمجتمعات العربية نحو الدولة الحديثة القائمة على أسس ديمقراطية وحقوقية وعقلانية.  هو تفاؤل استند إلى أن ما نشهده هو دينامية تاريخية جديدة تحمل قوة إزالة موانع التحول وتأمين مقدماته الثقافية وترسيخ شروطه الاجتماعية وتوفير أرضيته الاقتصادية. فالإيجاب يأتي عقب تداعي هياكل السلب وتقطيع أوصال انتشاره، كما إن الغاية المرجوة من الحراك الجديد لا تحصل فجأة ومن دون مقدمات، بل يسبقها ترسبات جديدة وبنى علاقات بديلة ومؤسسات توجه النشاط الجمعي وتضبطه، ووعي معمم يطال كليات المعنى والوجود الإنسانيين يحمل بداخله دوافع الحياة الجديدة ووازعها الأخلاقي.

 

يالمقابل، فقد قلل آخرون من مآلات الأحداث وآثارها الإيجابية، ورأوا فيها ظاهرةَ عنفٍ لاعقل ناظماً لها، ولا يستشف منها انبثاق وعي جمعي ذي مقصد جلي ومنضبط.  ما حصل ويحصل جزء من إفرازات الواقع الذي يفتقد بنى مؤسساتية ونظماً ثقافية واستراتيجيات تحكّم كافية للإمساك بمكونات الواقع والعناصر المتنافرة فيه، ما يجعلها أحداثاً تعبر عن الواقع غير المنضبط نفسه، وعن أزماته الذي وصلت الإنسدادات فيه إلى نقطة انفجار سرعان ما يستعيد الواقع بعدها نقطة توازن جديدة مؤقتة، لكن بنفس المكونات والعناصر السابقة.  إنها تجليات لحال واقع قائم وليس خطاب رؤية جديدة أو ملامح واقع جديد قادم. إنه الواقع نفسه بوجه آخر وتسويات جديدة. ما يحصل بحسب هذه الموقف، ليس تحولاً وانبثاقاً لواقع جديد، بل هو الواقع القديم في إحدى لحظاته التاريخية، مرحلة من مراحل وجوده، بحيث يعد انقسامه وتشظيه مظهراً طبيعياً له وصورة لحقيقة جيناته الأصلية وطبعه الأولي. مصدر التشاؤم هنا  ليس لجهة عدم أهلية الثوار أو حسن أو سوء نوايا قوى التغيير، بل لجهة أن قواعد واستراتيجيات السلطة في المراقبة والعقاب والتحكم والإقناع ما تزال هي نفسها، سواء أكان في إدارة الحكم أو في معارضتها. تغير الجهات وتبدل الاشخاص وتعاقب القوى لم يغير في نظام توزيع الموارد والقوة. تنوعت التجليات وبقيت المحددات واحدة.

 

كلا الموقفين، المتفائل والمتشائم، يقف على أرض واحدة في فهم الواقع والموقف منه، لجهة أنهما ينطلقان من تصور مسبق في رؤية التغيير والتحول.

 

فالمتفائل محمل بوعي زائف حول التغيير، لأن توقعاته تفتقد تبصر المحركات العميقة للأحداث والقوى المنتجة للإكراه والإقناع.  فالبعض منهم محكوم بذهنية الضرورة الحاكمة بأن الديمقراطية- الليبرالية حدث كوني لا مفر من انتشاره وتحققه في كل المجتمعات مهما تطلب ذلك من زمن أو اشتدت موانعه الموضوعية، وحصوله متحقق بإرادة أو بغير إرادة قوى ومؤسسات وأفراد المجتمع.  والبعض الآخر يرى أن موجبات الديمقراطية كامنة في قلب وباطن الواقع، ولا ينقص سوى تبني خطابها واعتماد قيمها، والعمل على إزالة موانعها.

 

اقتصر تفكير المتفائلين على توفر شروط الديمقراطية وإزالة موانعها، ولم يطرح السؤال حول أصل إمكانية تحقق الديمقراطية داخل الواقع العربي، مهما كانت جسامة التحولات وتبصر محركيها وحسن نواياهم وطاقة اندفاعهم.  بل لم يفكر أحد منهم في إمكانية قيام دولة حديثة في المجال العربي، التي هي بمثابة الحامل والمدبر لشؤون الديمقراطية والضامن لها. أي فكَّر المتفائل في شروط تحويل الواقع نحو وجهة معينة، ولم يفكر في قابلية هذا الواقع للتحول نحو هذه الوجهة.  استعان بآمال ورغبات الثوار والمقاومين، ولم يلحظ الأرضية التي يقف فوقها الثوار والقواعد التي تنظم أصول التنافس بين القوى، وقواعد الصراع بين الحكم والمعارضة، وضوابط نشوء مقاومات السلطة. هي أمور التزم المقاومون بحرفيتها جميعاً رغم كثافة حشودهم والتصدعات الكبرى التي أنزلوها بمؤسسات السلطة القائمة.  

 

أي في الوقت الذي اعتقدنا فيه بأن تدمير منشآت السلطة وإزاحة طاقمها بالكامل سيكون سبباً حتمياً للتحول إلى مجال آخر، تبين لدينا أن ما يحصل يبقى ضمن أصول وقواعد ممارسة السلطة وتوزيعها ومبادئ الإنصياع والمشروعية واستراتيجيات إمساك السلطة بكل مفاصل الحياة وقطاعات المجتمع.  لم ندرِ أو يدري الثوار أن إزاحة السلطة وفق القواعد التي وضعتها السلطة نفسها لإزاحتها، هو ترسيخ لقواعد اشتغالها وتعزيز لإجراءاتها وتنفيذ لاستراتيجياتها.

 

أما المتشائم، فقد بحث عن نموذج جاهز في ذهنه لم يجده، فحكم على الواقع بأنه يعيد إنتاج نفسه وأنه محكوم بسير دائري مقفل، من دون أن يتدبر مسار هذه الثورات ويتمعن في مجمل العوامل الفاعلة التي ولدت أحداثها.  فألغى نتيجة لذلك أي إمكانية للتحول نحو واقع ذي منطق جديد يتقوم بشبكة قوى محتملة وبنية خطاب غير مسبوقة.

 

أسقط المتفائل على الثورات العربية مفاهيمه وتصوراته وأحلامه فوقع في الطوبى، واشاح المتشائم وجهه عن قراءة الواقع ومنطق تحولاته الخاصة به ورصده من بعيد وأصدر أحكاماً مسبقة حوله، فوقع في تعالٍ منفصم عن حقيقة الواقع.

 

أثارت فينا الثورات العربية السؤال حول مآل أحداثها مع التسليم بأصالتها وجديتها. فبدلا من توقع أو رفض استقرار الأحداث على نموذج تاريخي جاهز، لم يتم التبصر في ما إذا كنا نعاصر لحظة تحول جديدة، وإذا كانت كذلك، فما هي المكونات الجديدة وبنية تركيبها وشبكة علاقاتها ونقطة توازنها الجديدة؟ هو أمر يستدعي تغيير الجهد الفكري من البحث عن واقع مأمول أو متخيل أو متمثل، إلى تقصي تقلبات الواقع نفسه والنفاذ إلى مكوناته وشبكة قواه الخفية وديناميات الأمر المنتشرة ومستقرات الطاعة المتوارثة فيه.

 

هذا كله يستدعي تجديد السؤال أو تحويله أو استحداثه، بطريقة تتمازج فيه بداهة المعطى المعاين والملموس مع الشك الديكارتي الكاسح الذي يرجع متانة ووثوقية تصوراتنا واستنتاجاتنا وأحكامنا عن الواقع إلى نقطة الصفر.

 

بعبارة أوضح، لا بد من إعادة النظر في وجهة الانتباه والتركيز، وفهم الإسباب والوضعيات والسياقات والبنى، التي أنتجت مؤسسات وقوى وقيم الواقع.  فقبل بناء التوقعات، لننظر أولاً في حقيقة الواقع ومكوناته ونظام حراكه، لنعرف بالتالي قابلياته وإمكاناته في تحقيق وضعية معينة أو نتائج مرجوة.  وقبل السؤال عن الدولة ومن يمسك يزمامها، لنسأل عن قواعد التوازن ومبادئ التوزيع وإجراءات المفاضلة وقيم الاقناع وموجبات الانصياع ومشروعية الأمر ومسوغات الإكراه الثابتة والراسخة والمستمرة. ليكون بالإمكان التكلم عن أرضية الحكم ومنطق السلطة وقواعد توزعها واستراتيجية انتشارها وسر شمولها الخفي قبل التكلم في شروط الحاكم ومواصفاته، وقبل إقامة نظام الحكم وتشييد مؤسسة الحكم، وقبل تسمية الحاكم والمحكوم وتعيين المتسلط والمقاوم وتشخيص المؤيِّد والكاره والطائع والمرغم.