فوضى الإحتجاجات على سياسة التقشُّف تُهدّد الاستقرار العام
 

وسط فوضى الاحتجاجات المتعاظمة ككرة الثلج، والتي لم تقتصر على قطاع بذاته بل شملت معظم قطاعات المصالح المستقلة والمؤسسات العامة، حتى انها لم توفّر موظفي مصرف لبنان، وكهرباء لبنان والضمان الاجتماعي والمرفأ والقضاة والمطار، مهددة البلاد بثورة قد يصبح متعذراً اخمادها إذا لم تبادر الحكومة إلى سحب فتيل بنود الموازنة التي استهدفت بشكل أو بآخر ذوي الدخل المحدود من موظفي القطاع العام، والمصالح المستقلة.

 وعلى وقع التسريبات والتسريبات المضادة عن المداولات السرية داخل مجلس الوزراء، وما يرافق ذلك من اتهامات تطلق عن وجود جهات داخلية تحرض الشعب على النزول إلى الشارع، ونشر الفوضى العارمة في البلاد بحجة ان هناك سياسة متعمدة من الحكومة أو من بعض أطرافها للاقتصاص من الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود بذريعة الإصلاحات التي تحتمها الحالة التي وصلت إليها الدولة نتيجة الانفاق غير المدروس والمحسوب. وسط كل هذه الأجواء المحمومة وغير المطمئنة برزت على صعيد الدول التي تولي الوضع في لبنان أهمية وتحرص على استقراره، أبدت مخاوفها من نتائجها مما يجري على الساحة الداخلية، ومن ان يكون الهدف منه حرمان لبنان من عائدات مؤتمر «سيدر» كما حصل بالنسبة إلى باريس1 وباريس2، حيث عملت قوى داخلية على إفشال نتائجهما التي كان يأمل المجتمع الدولي في ان يدفعا بلبنان قدماً إلى الامام ليصبح في مصاف الدول المتقدمة والمستقرة سياسياً واقتصادياً، وهو ما حذّرت منه أيضاً كتلة تيّار «المستقبل» بعد اجتماعها أمس الأوّل، استناداً إلى معطيات تمتلكها عن وجود جهات داخلية تعمل على تحريض الشارع على استخدام العنف الثوري وما إلى ذلك من مصطلحات بائدة لا ترقى إلى الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية الوطنية، وهي دعوات تستهدف تعطيل برنامج الدولة للاصلاح المطلوب، وقطع الطريق امام مشاريع استثمارية من شأنها معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المشكو منها. ورأت ان التحريض على استخدام لغة الشارع وقطع الطرقات وشل المؤسسات أمور لن تعالج المكامن الحقيقية للمشكلات القائمة، وان كان تيّار رئيس الحكومة ارتأى عدم التعميم في هذه الاتهامات الا ان دعوته بعض الكتل والجهات السياسية والحزبية المسؤولة للكف عن الخوض في سباق المزايدات على حقوق ذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى فليس هناك في صفوف اللبنانيين من يتقدّم على الآخر في هذا المجال. الأمر الذي حدا بتكتل «لبنان القوي» إلى ملاقاة التيار الأزرق في منتصف الطريق داعياً الرأي العام الى عدم الأخذ بالشائعات والنظر إلى السلة الإصلاحية كاملة وشاملة وغير مجتزأة، مشدداً على ضرورة التركيز في مشروع الموازنة العامة على الإصلاحات البنيوية التي تطال الهدر وتضبط المالية العامة وتتناول خدمة الدين العام مع المحافظة على انتاجية القطاع الخاص لا ان تضربه.

وفيما سارع التياران الأزرق والبرتقالي إلى طرح تُصوّر كل منهما للاصلاحات الواجب اقرارها لتجنيب لبنان المخاطر الناجمة عن العجز الكبير في الموازنة وعن تفاقم الدين العام حتى وصل إلى أعلى مستوياته ويوجهان أصابع الاتهام الى جهات حزبية وتكتلات نيابية بتحريض الشعب على الانتفاضة في وجه الحكومة لأنها تستهدف لقمة عيشه ظلت جهات حزبية ونيابية كحزب الله الذي كان له موقف واضح من الإصلاحات التي تطالب بها الدول التي شاركت في مؤتمر «سيدر»، كما كان له موقف مخالف لباقي مكونات الحكومة من الخطة الموضوعة في مشروع الموازنة العامة لخفض العجز في الموازنة إلى ان يتدنى عن العشرة بالمئة، بعيدة عن هذا السجال، وكأنها غير معنية بما يحصل داخل مجلس الوزراء على صعيد بعض الإجراءات التقشفية التي تمّ اتخاذها والتي أثارت هذه الموجه الواسعة من الغضب في صفوف موظفي المصالح المستقلة والمؤسسات الرسمية والمتقاعدين العسكريين ما يجيز التساؤل عمّا إذا كان الحزب مستهدف أيضاً من الاتهامات التي أطلقها كل من التيارين الأزرق والبرتقالي أم انه ليس من المقصود بالجهات التي تحرض الشارع على الثورة كما جاء في بيان التيار الأزرق، وما ألمح إليه رئيس الحكومة بعد الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في القصر الجمهوري ليل أوّل من أمس واضحه إلى رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، والذي بدأت على اثره سلسلة الاضرابات في القطاع العام تتفكك الواحدة بعد الأخرى.

وفي هذا السياق، تؤكد أوساط سياسية ان مجلس الوزراء الذي ينعقد غدا برئاسة رئيس الجمهورية بات بعيد حركة الاحتجاجات الواسعة امام خيارين: المس بالعقد الجماعي، وتالياً مد اليد إلى جيوب المواطنين بخفض الرواتب وسحب المخصصات والتقديمات أو تجميدها لسنوات من دون أية رؤية إصلاحية شاملة، وتالياً جر البلاد إلى فوضى غير مسؤولة بعدما تمّ تسليط الضوء بقوة على تفاوت الرواتب والتقديمات بين قطاع وآخر وبات الانكشاف فاضحاً إزاء غياب المساواة وبين الخيار الثاني الذي يُشكّل بحسب الأوساط نفسها فرصة ذهبية لنقل لبنان من حال المزرعة إلى واقع الدولة فيقضي برفع كل غطاء سياسي يظلل بعض القطاعات حيث مزاريب الهدر مفتوحة من المعابر غير الشرعية إلى الأملاك البحرية إلى التهرب الضريبي وضبط الجمارك إلى سرقة المال العام ونهبه وغيره الكثير الكثير، والاتجاه فوراً نحو الخطوات الإصلاحية العملية والتعاون مع المصارف في إطار خفض الفوائد وتلبية مستلزمات مؤتمر «سيدر» مع اتخاذ الإجراءات التخفيضية لتفادي الوقوع في المحظور والتفلت من المحظور الذي تسير الدولة نحوه بخطى سريعة.