السلطة الفلسطينية تموضعت داخل الانقسام بصفته نهائيا وأصبح يؤسس لانفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية وقيام كيانين مستقلين يسيران نحو مصيرين مختلفين.
 

أفضت تدخلات مصرية وأممية إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين القوات الإسرائيلية والفصائل في قطاع غزة، بعد التصعيد العسكري الذي شهدته الأيام الماضية بين الجانبين، والذي تصفه الأمم المتحدة بأنه الأسوأ منذ حرب 2014. لكن، رغم هذه الهدنة، لا شيء يوحي بالهدوء طالما الإدارة الأميركية مستمرة بتعديل بوصلتها ناحية الطرف الإسرائيلي وقلب المرجعيات، مقابل تحول الانقسام الفلسطيني إلى أمر واقع يؤسس لانفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتحول القضية برمتها إلى تفصيل داخل الأجندات الإقليمية والدولية الكبرى.

تمثل الهدنة الجديدة في قطاع غزة واجهة تظهر حرص أطراف الصراع على ضبط الصدام وترويض القوة النارية وفق أجندات كبرى. بدت المواجهة الأخيرة أكثر دموية مِن سابقاتها وتجاوزت الأهداف العسكرية لتطال تلك المدنية دون تحفظ. كان واضحا أن فصائل غزة وإسرائيل ذاهبتان نحو أكثر من معركة وأقل من حرب، لكنهما جاهزتان لاستخدام أمضى الأسلحة لجعل النهايات تُسفِر عن وقائع دموية.

في لعبة المظاهرات المدنية الحدودية قد يحرج الفلسطينيون إسرائيل ويفضحون دمويتها. وفي لعبة النار تقدم الفصائل هدية للطرف الإسرائيلي الذي يمتلك قدرة عالية على الرد بالنار، وبالتالي إلحاق الأذى والضرر بالفلسطينيين بشرا وحجرا. ويمتلك قدرة أخرى على استدراج التعاطف الدولي، الأوروبي خصوصا، الذي ينبري دفاعا عن “حق” إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

بضعة أفراد من الإسرائيليين قضوا في تلك المواجهات، فيما 150 فلسطينيا سقطوا بين قتيل وجريح. المعادلة نافرة في اختلالها، إلى درجة أن الطرف الفلسطيني بات يعتبر ميزان الخسائر غير المتكافئ من أبجديات الصراع، ذلك أنه مرتبط أساسا بالتفوق الهائل للخصم. وعلى هذا يجوز تكرار السؤال القديم حول نجاعة استفزاز المارد واستفظاع جرائمه بعد ذلك.

ولكن كيف السبيل إلى التعامل مع عدو محتل؟ سؤال يطرح منذ بدايات ذلك الاحتلال، منذ عام 1948، ومنذ الاحتلال الذي خرجت به حرب عام 1967. طرحت المنظومة العربية متأثرة بخطاب الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر أن “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. وأقرت في قمة الخرطوم الشهيرة عام 1967 أن “لا صلح لا اعتراف لا تفاوض” مع إسرائيل. وانتهجت الفصائل الفلسطينية منذ انطلاق حركة فتح عام 1965 إستراتيجية المقاومة لتحرير كامل فلسطين، وهو خيار التحقت به حركة حماس متأخرة عام 1987.

خسر العرب حروبهم وخسرت الفصائل معاركها بسبب ما يبدو بديهيا منذ عقود. تحظى إسرائيل بتفوق عسكري يسعى العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة إلى تعزيزه وتدعيمه. وتحظى إسرائيل برعاية سياسية وفكرية وإستراتيجية دولية تجمع على توفيرها كافة الدول الأساسية الكبرى (بما فيها روسيا والصين). ولئن تعبر العواصم عن تباين تكتيكي مع السياسات الإسرائيلية، إلا أن هذا التباين لم يرق يوما إلى حد الخلاف لصالح الفلسطينيين والعرب.

ليس في تلك المعادلة أي جديد، ولا شيء استجد ليبرر الإمعان في استخدام النار في صدام خاسر بالمنطق والواقعية والوعي. عرف العرب ذلك، فاعترفوا، وفاوضوا وبعضهم صالح، مطيحا بمقررات الخرطوم الشهيرة. وعرفت فصائل منظمة التحرير ذلك، فقفزت نحو “أوسلو” ودفعت الثمن غاليا، ودفع زعيمها الراحل ياسر عرفات حياته ثمن الطموح إلى اختراق بالنار لذلك الجدار الصلب الذي تمثله إسرائيل، جيشا ومجتمعا واقتصادا ورعاية دولية مكفولة.

يملك الفلسطينيون قضية نبيلة لا يمكن لأي حر في العالم إلا الإيمان بها والتعاطف مع حقيقتها. وتملك إسرائيل منطق القوة وفائض القوة الذي يفرض حقيقة وإن لم تكن حقا. المسألة ليست سجالا ساذجا تقليديا بين الحق والباطل وبين العدل والظلم. المسألة صراع أمر واقع، يكشف ويعرّي خطاب الطوباوية الحالم وخارطة القوى والمصالح التي تضع قواعد هذا العالم.

خبرت حماس في تجربتها متأخرة كل ما خبره من سبقها. حارب العرب أنظمة وجيوشا على كافة الجبهات. انخرطت دول الطوق مباشرة في تلك الحروب وانخرطت دول عربية أخرى، بالعسكر والمال والسياسة، داخل تلك الحروب. وداخل سياق الحرب الباردة، وبرعاية من الأخ الأكبر الاتحاد السوفييتي حينها، انخرطت الفصائل الفلسطينية بيمينها ويسارها مدعومة من هذه الدولة العربية أو تلك في معارك فاضت عن جغرافيا الصراع وتمددت نحو بلدان العالم في الخارج.

انتهت حماس إلى ما انتهى إليه الآخرون. لم تعد الحركة تتحدث عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر تماما كما انتهى غيرها، وباتت تتحدث عن حدود 67 تماما كما تحدث غيرها. وما الصدام بالصواريخ الذي تمارسه مع فصائل أخرى، إلا سلوك ملتبس قد يصفق له المتحمسون دون أن يغير من واقع التوازن الإستراتيجي شيئا. فإذا ما كانت جيوش العرب سابقا كما صواريخ حزب الله المتراكمة راهنا كما صواريخ إيران الباليستية عاجزة عن هزّ هذا اللاتوازن فما بالك بصواريخ غزة ومحدودية أدائها مهما فاجأنا هذا الأداء.

تتحمل إسرائيل مسؤولية الدم المسال غزيرا في غزة. لا يهم هذا الجدل حول المعتدي والمعتدى عليه. النتيجة واحدة. هناك خاسر كبير مهما كثرت المكابرة وصدحت حناجر العناد. وما الوساطة المصرية وسوْق القطاع نحو الهدنة من جديد، إلا علامة جديدة على أن الحدث على ضراوة دراماتيكيته يبقى تفصيلا داخل الأجندات الإقليمية والدولية الكبرى. تلك الأجندات لن تأخذ بالا بجزء مما تبقى من فلسطين.

في لعبة الحسابات غزة خاسرة، يجري الاستفراد بها بعيدا عن الجناح الثاني في الضفة الغربية وبعيدا عن سياق عربي لم يعد راعيا لمعاركها. لم يعد من الفطنة أن تخوض حركة حماس معركة فلسطين وحدها. في ذلك ما بات ساذجا إذا كان يمارس من قبل الثوار الأبرياء وما بات مغرضا ينفذ أجندات خارجية إذا كان يمارس من قبل الساسة الخبثاء. وبين هذا وذاك فشل يراكم الفشل بحيث بات الخروج من الانقسام مصلحة لحماس ربما أكثر من كونه مصلحة وطنية فلسطينية عامة.

تبدو مأساة غزة تفصيلا داخل ما يعد لفلسطين والمنطقة. لا يظهر لغزة أثر في خرائط “صفقة القرن” التي بدأ جاريد كوشنر تسريبها قبل أيام. لا غزة ولا ضفة ولا دولة فلسطينية. تجتمع حماس وكوشنر في التوق إلى الإطاحة باتفاقات أوسلو. مشروعه لا يعترف بمفاعيل ما تبقى من الاتفاقية التي أسست نشوء السلطة الفلسطينية. مشروع الرجل لا يلتزم بمعاهدات ومواثيق وقرارات ولا يعترف بمبادرة عربية للسلام. تستعد واشنطن تحت إدارة دونالد ترامب لقلب المرجعيات وتفتيتها واختصار أزمنة الصراع العربي الإسرائيلي وتصويب عقاربها صوب التوقيت الإسرائيلي وحده وتوقيت بنيامين نتنياهو وتيار اليمين الفائز بالانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.

وساطة مصر تنحصر في التوصل إلى هدنة، وربما، لاحقا، إلى تفاهمات. حراك القاهرة تحفزه مصالح مصر الأمنية وهواجس أمر ذلك داخل منطقة جغرافية على الحدود المصرية. ليس أكثر من ذلك. لم تعد الوحدة الفلسطينية همّا عربيا ولا حتى مصريا. حاول العرب منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007 رأب الصدع بين حماس وفتح، بين الضفة والقطاع، وفشلوا، لا بل باتوا يعتبرون أن الخلاف بات بنيويا ملتصقا بالبنيان السياسي الفلسطيني، وباتوا يتعاملون مع الأمر بقدرية لا مناص من تبديلها.

لكن الأخطر من ذلك أن السلطة الفلسطينية نفسها تبنت تلك القدرية وتموضعت داخل الانقسام بصفته نهائيا وأصبح يؤسس لانفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية وقيام كيانين مستقلين يسيران نحو مصيرين مختلفين.

تستنكر رام الله قصف غزة وكأنها طرف آخر. شكلت السلطة حكومة جديدة لا تشارك بها حركة حماس. لا يهم ما يصدر من تصريحات تنشد الوحدة بين جناحي الوطن، ذلك أن أوجاع غزة غزية لا تتعدى في بعدها الإستراتيجي حدود القطاع وربما حدود بيوت من أسقطتهم ضحايا جولة العنف الأخيرة.

ليس أمام غزة وحماس إلا عنوان واحد هو في الضفة. وليس أمام الفلسطينيين جميعا إلا الوحدة على أساس التعدد والاختلاف بديلا عن الانقسام. ليس في ذلك دعوة إنشائية أخلاقية، بل دعوة هي في قلب علم المصالح والحساب. “يا وحدنا”. تلك الصرخة التي أنشدها محمود درويش كانت أقسى حسرة تخيلها الرجل. وكم من قائل يردد هذه الأيام أننا لم نعد واحدا حتى نكون وحدنا.