يرغب البعض في تصوير الواقع الذي تعيشه المالية العامة أنه من رواسب الماضي البعيد، رافعاً المسؤولية عن الطاقم السياسي الذي حكم البلد منذ عامين. ويرى آخرون أنه نتاج أخطاء السياسات الحديثة التي أبعدت لبنان عن موقع «النّائي بنفسه» عن أزمات المنطقة، في ما هو خليط من كل هذه المحطات. ولكن كيف يتطلّع المجتمع الدولي الى ما يشهده لبنان اليوم؟ وما الذي يطالب به؟
 

يشكّك خبير مالي دولي في قدرة الحكومة اللبنانية على تقديم «أوراق الاعتماد» المالية المطلوبة منها أمام المجتمع الدولي والهيئات المانحة، وخصوصاً تلك التي اجتمعت في باريس تحت مظلة «سيدر 1» بدلاً من مسلسل باريس بنسخته الرابعة. مع العلم انّ المطلوب بالدرجة الأولى هو إعادة نظر شاملة ومتقدمة تنسف قواعد وأسس المالية العامة والنظم المعتمدة من اجل إنقاذ الاقتصاد واستعادة التوازن المفقود على أكثر من مستوى.

وفي اعتقاد الخبير المالي انّ الترتيبات الخاصة بـ»السلة الجديدة» من القروض والهبات الأجنبية، التي يمكن ان تستثمر في الإقتصاد اللبناني والبنى التحتية، فرضت على المسؤولين اللبنانيين إجراءات كانت مطروحة عليهم منذ سنوات ولم يتوافقوا على تطبيقها لألف سبب وسبب. فمنها ما رُدّ الى كونه سياسياً وإدارياً بامتياز من جهة وما هو اقتصادي ومالي بحت، ولم يتجرأوا على تطبيقه أو مجرد مقاربته قبلاً، سواء عن سوء تقدير او عن عجز، فالنتيجة كانت واحدة بمعزل عمّا قاد اليها.

ويضيف الخبير نفسه: «انّ الظروف التي دفعت الرئيس الفرنسي الى الدعوة الى عقد مؤتمر «سيدر 1» والأسباب الموجبة التي قادت اليه، واستدراج الدول والمؤسسات المانحة الى تقديم ما قدمته من قروض وهبات للبنان، كانت بهدف استعادة التوازن الذي فقده لبنان بطغيان محور سياسي في المنطقة على آخر. وهو ما عبّرت عنه بقوة أزمة الاستقالة التي دُفع اليها الرئيس سعد الحريري في الرياض بكل أبعادها الدولية والإقليمية قبل المحلية.


فقد عكست تلك المحطة أفضل صورة عن الخلل الذي كاد ان يودي بالتوازنات الداخلية اللبنانية الدقيقة التي حكمت لبنان منذ العام 2005، والتي زادتها الأزمة السورية تعقيداً وخرجت عن كل الضوابط بخروج قوى لبنانية أساسية عن سياسة «النأي بالنفس» عن أزمات المنطقة ودخول «حزب الله» مدار العمليات العسكرية في سوريا واليمن، مع ما رافقها من جدل سياسي في لبنان والمنطقة والعالم. لذلك فإنّ العودة الى شكل ومضمون البيان الذي تلاه الحريري في 6 كانون الأول 2015 في القصر الجمهوري بعد عودته عن «استقالة الرياض» الترجمة العملية للتسوية التي أعادته الى بيروت، أنعشت ما سبقها من «تسوية كبرى» أوصَلت الرئيس العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وأعادت الحريري الى السراي الحكومي.

فقد اختيرت العبارات التي تضمّنها ذلك البيان، وتحديداً تلك التي تحدثت عن توافق اللبنانيين على «النأي بالنفس» وبلبنان عن الازمات في محيطه، ولاسيما السورية، بعناية مطلقة. وشكّلت لاحقاً المدخل الأساسي الى الدعوة لعقد «سيدر 1» لتكريس التوازن الداخلي في لبنان. فقد بُنيت على قاعدة انّ لبنان يحتاج لتعزيز موقعه المتمايز في المنطقة الى دفع دولي لاقتصاده يَقيه السقوط في المحاور «الإقليمية القاتلة». فقد تسبّب تدخّل بعض اللبنانيين بقوة في الأزمة السورية وما نتج عنه من أزمة نزوح «جرّارة وعشوائية» بكثير من التغييرات في قواعد اللعبة الداخلية، وزادت من نسبة المخاوف على الكيان والدولة لعدم قدرتها على مواجهة الكلفة الباهظة التي تَرتّبت على اقتصاد بلد مُنهك لم يكن قد استعاد بعد مقومات الصمود المُستدام. فقد زادت الحرب السورية وأزمة النازحين من خسائره المباشرة وغير المباشرة وفق التقديرات الاولية التي رفعت أمام مؤتمر «سيدر» عن المليارات الـ17. وهي تقديمات أعطيت من أجل قيامه من كبوته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار لئلّا يهددان الإستقرار الأمني الهش الذي ضمنته القوى العسكرية والأمنية اللبنانية بمظلة دولية نادرة. هذه المظلة التي شكلت بديلاً منطقياً لفقدان الرعاية السياسية الداخلية. فكانت هذه القوى بتضامنها والتنسيق غير المسبوق في ما بينها الضامن الأول للهدوء والأمن طوال فترة فقدان القرار السياسي الوطني الجامع الذي تسبب به الشغور الرئاسي على مدى 29 شهراً. فلا يجب نسيان انّ انحلال المؤسسات الدستورية كان قد اقترب من الخطوط الحمر في ظل حكومة ترنّحت أكثر من مرة وآلت الى السقوط بين لحظة واخرى لولا الرعاية الدولية التي حظيت بها وساندتها في اكثر من محطة خطيرة.

ويضيف الخبير: «انّ إصرار اللبنانيين على قراءة الأرقام في لبنان، كلّ من وجهة نظره، يوحي أنّ النزاع ما زال قائماً بين نظريتين: الاولى تقول بموازنة تقشفية ومتوازنة، والثانية تعتقد انّ إرضاء المجتمع الدولي يدفع الى «موازنة كيف ما كان» تسايره ولا تلزم اللبنانيين بمقتضياتها لاعتقادهم انّ المجتمع الدولي لن يراقب ولن يحاسب...

وعليه، ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل اللبنانية، ينتهي الخبير المالي الى القول: «من الخطأ ان يظنّ البعض انّ «سيدر 1» لا يختلف عن «باريس 1 و2 و3»، وانّ في إمكان اللبنانيين تطويعه وإلزامه بالمساعدة بلا قيد او شرط. وهو الأمر الذي ينفيه جميع المراقبين الدوليين الذين تحدثوا عن دول ومؤسسات مانحة لم تعد قادرة على إعطاء لبنان اي فرصة او فترة سماح، وهي تريد الأرقام الصحيحة للعجز في الموازنة وحجم الواردات المقدرة والإنفاق المقرر، ولن تسمح بالتلاعب بحجم الدين العام وكلفته... فلم يعد هناك رقم مخفي عليهم.