حكومة بيروت منشغلة بورشتها الاقتصادية التقشفية، والمواطن اللبناني لا يعنيه سجال السيادة حول أراض سمع بها قبل سنوات. بالمقابل فإن وليد جنبلاط مرة أخرى يقدم نفسه رأس حربة ضد وصاية إيران وحزبها على لبنان.
 

استفاق اللبنانيون قبل أيام على حقيقة بديهية لم يجرؤ أحد منهم على إثارة احتمالها “مزارع شبعا ليست لبنانية”. والأمر حقيقة تاريخية وجغرافية وقانونية، طالما أن بيروت وحكوماتها المتعاقبة لم تستطع تقديم الوثائق المطلوبة للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المعنية تثبت بالدليل لبنانية “المزارع”، وأنها ليست سورية، ولم تكن تخضع لسيادة دمشق قبل أن تحتلها إسرائيل.

قد يكون لبنان على حق في مطالبته باسترجاع أراض لبنانية محتلة واستعادتها إلى حيّز السيادة اللبنانية. وهذه الـ”قد” تعود إلى أن بيروت تزعم ذلك وتدعيه طالما أنها لا تقيم الدليل على ذلك، وطالما أن النظام السوري في دمشق بقي رماديا يسرّب عبر تصريحات صحافية أن مزارع شبعا لبنانية، لكنه في الوقت عينه، ومنذ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، يرفض تسليم الحكومات اللبنانية المتعاقبة والأمم المتحدة إقرارا رسميا بأن تلك الأراضي ليست سورية، وتثبت أن “المزارع”، وإن احتُلت حين احتَلت إسرائيل الجولان عام 1967، فإنها لبنانية من حق بيروت المطالبة بتحريرها.

كان الزعيم وليد جنبلاط يعرف هذه الحكاية. سكت عن الأمر ولم يتمرد على حملة في هذا الصدد أيقظت اللبنانيين غداة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. فرح الجنوبيون بتحرير أراضيهم من الاحتلال الإسرائيلي، ورأى اللبنانيون جميعا في ذلك انتهاء من نزاع دراماتيكي بين لبنان وإسرائيل، ومنّوا النفس بتبريد جبهاتهم وانتهاء الصراع العسكري مع إسرائيل، لكن ذلك الاستنتاج الساذج لم يدم طويلا، إذ تحدث حزب الله وبيروت الواقعة تحت الوصاية السورية آنذاك عن أن مزارع شبعا هي أراض لبنانية مازالت تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن “المقاومة” مستمرة حتى تحرير كل الأراضي اللبنانية المحتلة.

لم تعترف دمشق يوما بلبنانية مزارع شبعا. وللحكاية قصة عتيقة. قيل إنه في عام 1959، أي بعد عام من “الثورة” التي اندلعت ضد نظام الرئيس اللبناني كميل شمعون، أقامت دمشق مخفرا للشرطة في مزارع شبعا على اعتبار أنها أراض سورية. والظاهر أن النظام السياسي اللبناني وفق ظروف تلك الحقبة لم يلح كثيرا في الاحتجاج، ولم يكن يريد فتح جدل مع نظام دمشق من أجل نزاعات حدودية هي متعددة بين لبنان وسوريا، خصوصا أن دمشق رفضت دائما مطالب بيروت المتكررة لترسيم الحدود بين البلدين.

يملك لبنانيون وثائق تثبت ملكيات عقارية لهم في مزارع شبعا. هذا صحيح، غير أن ذلك لا يثبت أن مزارع شبعا لبنانية ولا يؤكد السيادة اللبنانية عليها. هذا تماما ما يشير إليه جنبلاط في تصريحاته الأخيرة المثيرة للجدل. سكت جنبلاط قبل ذلك، لكنه لسبب ما، قد تكون له علاقة بحسابات محلية أو بمعطيات ما فوق محلية، قرر الرجل تفجير قنبلته. كشف أن مزارع شبعا ليست لبنانية وهي سورية تواطأ نظام دمشق في التلاعب بالخرائط وتفخيخها، لكي تبقى تلك المنطقة مناسبة لاستخدام لبنان منصة ضد إسرائيل لحسابات تخدم أجندات دمشق وطهران.

قد يكون جنبلاط مخطئا ومغرضا وربما “خائنا”، وفق الحملات التي تخاض ضده إثر تصريحاته هذه، لكن بالمقابل، إذا كان جنبلاط لا يؤمن بلبنانية مزارع شبعا، فما على الممانعين المقاومين وبيروت من ورائهم إلا التحرك بجدية وليس بالأبجدية والكلام المجوف لإثبات لبنانية مزارع شبعا. حزب الله الذي دفع الغالي والنفيس من أجل الدفاع عن نظام دمشق يستطيع، ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ممارسة الضغط المطلوب لإجبار النظام السوري لتقديم الخرائط والوثائق التي تثبت أن “المزارع” ليست، ولم تكن يوما، سورية حتى لو تقدم مخفر سوري داخلها.

قد تدافع الدوائر القريبة من جنبلاط عن تصريحات الزعيم الدرزي الأخيرة وتدرجها داخل سياق هدفه تحرك الحكومة اللبنانية لإثبات لبنانية مزارع شبعا. الأمر بات ملحا في موسم يكثر فيه الحديث عن خرائط جديدة تعد لكل المنطقة من ضمن تحولات “صفقة القرن” العتيدة. غير أن سقوط ورقة مزارع شبعا بعد 19 عاما على العزف على أوتارها وتعويمها لتصبح مسألة رأي عام تبنتها الحكومات اللبنانية ووضعت تحريرها داخل نصوص البيانات الوزارية لكل الحكومات المتعاقبة مذاك، يعد انقلابا له ما بعده في التأسيس لتفكيك الثلاثية الخشبية (حسب وصف الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان): الجيش والشعب والمقاومة.

“القافلة تسير”، حسب رد جنبلاط على سيل الردود التي نالت منه منذ تصريحاته. الرجل خائن وفق خطاب حلفاء دمشق وطهران، وهو، وقبل أن يدلي بدلوه في مسألة مزارع شبعا، يتعرض لحملة حصار يقوم بها حزب الله وتيار الرئيس ميشال عون والتيارات القريبة من دمشق للنيل من موقع “الجنبلاطية السياسية” في الحكومة والبرلمان وإدارات الدولة. ووفق ذلك السياق ينتفض الرجل كاسرا الصمت حول مزارع شبعا، متمردا على مملكة الصمت التي تتواطأ داخلها كافة مكونات النظام السياسي اللبناني.

كثيرا ما عرف جنبلاط بقدرته على الاستشراف والتبصر. في لبنان يتحدثون عن “انتانات” (هوائيات) وليد جنبلاط التي تستشعر التحولات قبل الآخرين. كان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله قد شكك بـ”انتانات” الرجل حين غمز جنبلاط في مواقفه من قناة النظام في إيران. يكاد الرجل يرى مرحلة ما بعد الحرب في سوريا (وربما ما بعد زعيم نظامها). وعلى أساس ذلك يعيد قراءة الخرائط. يقول جنبلاط إن المزارع غير لبنانية، تاركا للمبشرين بغير ذلك تقديم الدليل. يتحدث الرجل من على منبر إعلامي روسي ليقول إن بشار الأسد “صديق روسيا كذاب كبير”، وأن موسكو توسطت بينه وبين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عام 2012.

قال الرجل كلمته. ألحقها بتغريدات. تدافع المحللون لتفسير المضمون وتأويل الشكل والاجتهاد في فهم سياق القول في زمانه ومكان إطلاقه.

غير أن مطالبة جنبلاط بالتراجع عن أقواله حول مزارع شبعا لن تثبت لبنانية هذه الأراضي بالنسبة للمجتمع الدولي. والرد الناجع هو في طيّ هذا الملف نهائيا سواء بإثبات لبنانية المزارع، أو عدم لبنانيتها. وأنه بات على كل لبنان العمل من أجل إخراج هذه المسألة من حيز المناكفة السياسية، ونقلها إلى حيز الدبلوماسية والقانون الدولي.

سيبقى السجال حول مزارع شبعا وقودا هذه الأيام للصراع السياسي الداخلي ضد وليد جنبلاط. حزب الله وأمينه العام يتولان الرد، وحلفاء دمشق سيجدون في الحدث مناسبة لتكثيف القصف السياسي ضد “المختارة”. حكومة بيروت منشغلة بورشتها الاقتصادية التقشفية، والمواطن اللبناني لا يعنيه سجال السيادة حول أراض سمع بها قبل سنوات. بالمقابل فإن وليد جنبلاط مرة أخرى يقدم نفسه رأس حربة ضد وصاية إيران وحزبها على لبنان بعد أن لعب ذلك الدور ضد الوصاية السورية منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري.

دفع كمال جنبلاط، والد وليد، حياته ثمنا لتمرد الزعامة الدرزية على وصاية دمشق. يتذكر وليد جنبلاط ذلك ويخوض معركته ربما وحيدا.