فكرة المحيط العربي تقض مضجع حكام العراق. ذلك لأنهم يتمنون لو أن الجغرافيا تغير من أحوالها بعد أن استطاعوا من وجهة نظرهم أن يحلوا تاريخ مروياتهم الخرافية محل التاريخ المادي.
 

العراق بلد جريح. كذبة تحريره من النظام الدكتاتوري التي أشاعها الأميركان وجعلوا منها سببا لغزوه مرت على عجل كما لو أن أحدا لم ينطق بها.

تركه الغزاة بعد أن دمروا دولته ليكون مختبرا لمختلف أنواع الإرهاب الديني “الطائفي”، فشهد حربا أهلية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من أهله، تلتها غزوات مريبة وغامضة قامت بها جماعات استسلم الكثيرون لشريعتها.

غزاة أجانب تلاهم غزاة محليون، ولا تزال الطرق سالكة.

هناك ميليشيات عبأت أكياسها بالأموال، وهناك قطاع طرق يقفون في المنعطفات في انتظار اللحظة المناسبة للهجوم. لا يزال هناك ذهب تحت الأرض. البلد ثري وما من قانون يحكم ثروته أو ينصف أهله.

الأسوأ في انتظاره. مشاهد الفقر في العراق تتناقض مع رغبة المستثمرين اللصوص في الذهاب إليه. “هناك أموال كثيرة” ترى أين تقع تلك الأموال ومن يتصرف بها؟

هناك عجز في الميزانية دائما. هذا ما تقوله الحكومة العراقية وهو ما يدفعها إلى الاقتراض لتزيد من مديونية العراق المليارية. بلد يغرق في الديون من غير أن يتمكن أحد من إيقاف ذلك النزيف.

لا أحد يسأل أين تكمن المشكلة؟ الدولة نفسها غير معنية بذلك السؤال. يفكر سياسيوها في أن يقوموا بلعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران في ما يتعلق بالأزمة بين البلدين. لم يفكر أولئك السياسيون بحجمهم الذي لا يمكن أن يتيح لهم أداء تلك المهمة.

تلك فكرة طارئة لن يكون النظر إليها مقبولا إلا في سياق تلفيق بلد طارئ اسمه العراق الجديد. شيء هو أشبه بالحماقة أو المزحة التي تدعو إلى البكاء. ذلك البلد، الذي لن يعود إليه أبناؤه الهاربون من حكم الاستبداد إلا لأسباب نفعية، لا يمكن أن يكون نافعا لأحد. فهو لا يصلح لشيء وليس من المستبعد ألا يصلح له شيء.

معادلة ركبها الأميركان من خلالها تحول العراق إلى دولة على الورق.

فالعراق دولة معترف بها على صعيد عالمي، غير أن تلك الدولة في حقيقتها ليست أقوى من نظامها السياسي ولا من حكوماتها. وإذا ما عرفنا أن الاثنين يخضعان لهيمنة الميليشيات الإيرانية يمكننا أن نحكم على تلك الدولة بكل مؤسساتها بأنها مجرد غطاء لأكبر عملية سرقة في التاريخ. إنها سرقة بلد بأكمله من أبنائه.

عنوان تلك السرقة الطائفي هو الآخر كذبة مروعة.

فشيعة العراق ليسوا إيرانيين. هم عرب أصلاء. بنى أجدادهم الجزء الأكبر من الحضارة العربية الإسلامية. مقومات وجودهم الفكري تستمد حيويتها من لغتهم العربية. إضافة إلى أن مذهبهم لا يقر مبدأ ولاية الفقيه المطلقة التي فرضها الخميني على إيران.

مذهبيا هم وجه التشيع الحقيقي.

غير أن اللعبة السياسية غلبت الحقيقة ولو مؤقتا. الأحزاب الشيعية التي تحكم العراق في ظل نظام المحاصصة الطائفية الذي فرضه الأميركان هي أحزاب إيرانية الولاء والفكر، وهي لا تمتّ بصلة إلى التشيع العربي.

لذلك فإن الحديث عن عراق عربي تقود دولته أحزاب إيرانية الولاء هو نوع من الهراء. فكرة المحيط العربي تقض مضجع حكام العراق. ذلك لأنهم يتمنون لو أن الجغرافيا تغير من أحوالها بعد أن استطاعوا من وجهة نظرهم أن يحلوا تاريخ مروياتهم الخرافية محل التاريخ المادي.

تؤرقهم الجغرافيا لأنها لا تخضع لمنطق الخرافة.

وإذا ما كان أولئك الطارئون على السياسة قد اعتقدوا بأنهم تمكنوا من التاريخ بسبب جهلهم به، فإن ما تمكنوا منه لا يعدو سوى لحظة طارئة من ذلك التاريخ. ذلك حدث عاشه العراق عبر عصوره. ولكنه ظل وفيا لشخصيته التي يعرفها الآخرون أكثر مما يعرفها أبناؤه.

العراق اليوم بلد جريح يقيم في أسوأ لحظات تاريخه. غير أنه يتلفت من حوله مناديا “لا تتركوني وحيدا”.