إن هي إلاّ خرائط يرسمها أولو الحول والطول في الحرب والسلام والدبلوماسية
 

أولاً: سوريا الطبيعيّة وتصريحات جنبلاط.

 

أثارت تصريحات الزعيم وليد جنبلاط حول السيادة على مزارع شِبعا وتلال كفرشوبا، والمتنازع عليها بين لبنان وسوريا، تعليقاتٍ عدّة وردّات فعلٍ معظمها مُستغرب ومُستفزّ، ويكشف عن جهلٍ مُطبق لدى ما يُسمّى بقوى "المقاومة والممانعة" بطبيعة الجغرافية - السياسية التي تتحكم في المنطقة العربية منذ اتفاقية سايكس-بيكو في العام ١٩١٦ من القرن الماضي وحتى اليوم، فهذه الاتفاقية هي التي رسمت خرائط الولايات العربية في السلطنة العثمانية السابقة، وكما هو معروف فقد وُضعت المنطقة العربية تحت السيطرة البريطانية والفرنسية، وتنازعت هاتان الدولتان فيما بينهما طبيعة الحدود والنفوذ على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط والمناطق الداخلية، مع إستثناء مدينة القدس التي جرى التوافق على اعتبارها منطقة مُدوّلة، والغريب أنّ "الاستعماريّين" الفرنسيين كانوا على دراية كاملة (أكثر من حُماة القضية الفلسطينية هذه الأيام) بأنّ فلسطين هي سوريا الجنوبية، وطالبوا بوضعها ضمن انتدابهم على سوريا الطبيعية، إلاّ أنّ بريطانيا (صاحبة وعد بلفور بوطن قومي يهودي) راحت تتشدّد في المطالبة بالأراضي المقدّسة، بما هي منطقة عازلة بين صحراء سيناء وسائر المشرق، ومهمتها الدفاع عن قناة السويس وطريق الهند، كما يذكر فواز طرابلسي في كتابه: تاريخ لبنان الحديث، دار رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠٠٨.

المهم في تصريحات الزعيم وليد جنبلاط (والذي يتعامى عنه كثيرون هذه الأيام) أنّ الاقضية الأربعة والتي سُمّيت فيما بعد بالمُلحقات (شمال لبنان والبقاع وجبل عامل ومرجعيون-حاصبيا) هي مناطق تابعة لسوريا الطبيعية، أو ما كان يُطلق عليه بلاد الشام، وهي التي ستتمحور حولها مشاكل الإتصال/الإنفصال بداية الانتداب الفرنسي حتى مشارف مرحلة الإستقلال.

والجدير بالذكر هنا أنّ مفاوضاتٍ عسيرة دارت بين الطرفين الاستعماريّين أفضت أخيراً إلى إحداث تعديلات هامّة في اتفاقية سايكس - بيكو بعد احتلال فرنسا للبنان، واستعدادها لغزو سوريا وإنهاء حكم الملك فيصل، وبموجب هذه التعديلات أسقطت فرنسا مُطالبتها بفلسطين، وتخلّت لبريطانيا عن الموصل للعراق ( وكانت في الأصل معتبرة جزءاً من سوريا)، في مُقابل حصّة في شركة النفط الإنكليزية الإيرانية التي اكتشفت النفط في تلك المنطقة، واعترفت بريطانيا بسيطرة فرنسا على كامل الأراضي السورية.

 

إقرأ أيضًا: السيد حسن نصر الله والخليفة عمر بن الخطاب

 

ثانياً: ترسيم الحدود الجنوبية...

 

يذكر طرابلسي في كتابه المذكور آنفاً أنّ ترسيم الحدود الجنوبية للبنان الكبير كانت قد أخذت حيّزاً كبيراً من النقاشات والمشاحنات بين الفرنسيين المنتدبين على لبنان وسوريا، والبريطانيّين المنتدبين على فلسطين والعراق، ويذكر أنّ قلّةً من أنصار لبنان الكبير طالبت بضمّ جبل عامل إلى الكيان الجديد، لا بل إنّ أصواتاً مسيحية عدّة ارتفعت ضدّ ضمّ الجنوب، وأبرزها الكنيسة المارونية وعدد من مشايخ آل الخازن، حتى حسمت الأمر لجنة عسكرية فرنسية بريطانية مشتركة، عملت على معالجة حدود لبنان الكبير من حزيران عام ١٩٢١ حتى شباط من العام ١٩٢٢، وخلال المفاوضات طالب الوفد البريطاني بوضع حدود فلسطين الشمالية عند نهر الليطاني،  وذلك كي تُكمل بريطانيا فضائلها على الصهاينة وفقاً لمذكرة "المنظمة الصهيونية" إلى مؤتمر السلام بتاريخ ٣ شباط عام ١٩١٩، بتحديد الحدود الشمالية ل "الوطن القومي اليهودي" عند صيدا و "كوع" الليطاني عندما ينحرف النهر غرباً ليصُبّ في البحر حيث يُعرف باسم "القاسمية"، وبناءً على ذلك التّصور، لا تضُم فلسطين فقط مناطق صور وجبل عامل اللبنانية، بل القسم الأكبر من هضبة الجولان وجبل الشيخ وحوران السورية،  وقصب السباق هو روافد نهر الاردن، إذ أراد البريطانيّون هذا النهر مع روافده داخل منطقة الانتداب الخاصّة بهم.

كانت الغلبة نهاية المطاف لفرنسا، والحقّ يُقال، أنّ فرنسا كانت الأم الحنون لأهالي جبل عامل وسائر الجنوبيين، إذ رفض الفرنسيون بحزم التنازل للبريطانيين بشأن الحدود، أو مياه الليطاني واليرموك، وتمّ في نهاية الأمر تقسيم الجليل بين القوتين الانتدابيّتين، وصادقت الحكومتان البريطانية والفرنسية على الإتفاق النهائي في ٧ آذار عام ١٩٢٣، والذي يضع الحدود اللبنانية الفلسطينية ضمن مساحة آمنة جنوبي حوض الليطاني، فبقيت روافد نهر الاردن داخل المنطقة الفرنسية، فيما جرى التّخلّي عن بحيرة الحولة لفلسطين، ووضع الحدود الغربية للبنان الكبير عند رأس الناقورة على البحر الأبيض المتوسط.

عام ٢٠٠٠، غداة الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان،  لم تُعر الأمم المتحدة بالاً يُذكر لما يقوله هذا الزعيم أو يُصرّح به مُمانع او زعيم حزب، أو طرف إقليمي منخرط في الصراع على هوية لبنان الكبير وسيادته واستقلاله، بل اعتمدت الخرائط المحفوظة لديها، والتي تُبين أنّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ما زالت تحت السيطرة والسيادة السورية، بانتظار ترسيم الحدود الموعودة بين لبنان وسوريا، وحيث أنّه من المتوقع، لا بل المؤكّد، بأنّ سوريا لن تتخلى عن سيادتها على هاتين المنطقتين، طال الزمن أو قصُر، فليوفّر اللبنانيون عناء المشاحنات حول هذه المسألة التي لا معنى لها في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي "الدائم" للجولان السوري المحتل ، إن هي إلاّ خرائط يرسمها أولو الحول والطول في الحرب والسلام والدبلوماسية.