أوّل ما يفترض أن يعمله الزعماء اللبنانيون، بمن في ذلك الزعماء الشيعة الذين لا ينتمون إلى حزب الله، اتخاذ موقف صريح وشفاف ينطلق من فكرة التعاطي مع الواقع بعيدا عن الأوهام.
 

في أساس المأزق اللبناني الذي دخل مرحلة متقدمة في ظلّ التعقيدات الإقليمية المتزايدة، هناك قبل كلّ شيء رفض للتعاطي مع الواقع. يقول الواقع إن الصيغة اللبنانية كانت قابلة للتطوير وإنّها أقوى بكثير مما يُعتقد. من كان يتصوّر يوما أن الجيش السوري سيخرج من لبنان؟ من كان يتصوّر قبل ذلك أن المسلحين الفلسطينيين لن يعودوا منتشرين في كلّ الأراضي اللبنانية بعدما أقاموا جمهورية الفاكهاني.

تقول الواقعية أيضا إنّ على لبنان أنْ يكون متصالحا مع نفسه، وأن يحافظ على مصالحه وأن يستفيد من أخطاء الماضي القريب، خصوصا من أخطاء نصف قرن امتد منذ العام 1969 وحتّى من السنوات التي سبقته.

ففي العام 1969، وقّع لبنان اتفاق القاهرة في ظلّ غياب للوعي وللحد الأدنى من المنطق. لم تستجب الطبقة السياسية وقتذاك للواقع المتمثّل في أن الجيوش العربية كلّها هزمت في العام 1967 أمام إسرائيل، كيف يمكن إذا تحرير فلسطين انطلاقا من الأراضي اللبنانية بواسطة مجموعة من المسلحين الفلسطينيين؟

ما ينقص الزعماء اللبنانيين هو الصراحة. كان الشيخ بيار الجميّل في غاية الواقعية عندما كان يقول إن قوّة لبنان في ضعفه. المؤسف أنّه سقط في فخّ الدخول في لعبة اللجوء إلى السلاح في المواجهة مع الفلسطينيين في وقت كان مطلوبا تفادي ذلك، واستيعاب مغزى صعود نجم حافظ الأسد ونظامه في سوريا ورغبة الأسد الأب في استخدام المسيحيين اللبنانيين إلى أبعد حدود.

كان هدف الأسد الأب وضع اليد على لبنان بحجة حماية المسيحيين أحيانا، واستخدام الورقة الفلسطينية في كلّ حين. هذا ما يفسّر إلى حد كبير اعتراضه على أي تسوية كان يمكن أن يستفيد الفلسطينيون منها ولو في الحدود الدنيا. كان يقول إن القرار الفلسطيني المستقلّ “بدعة”. ما ساعده في كلّ وقت كان عقل ياسر عرفات الذي اعتقد أن لبنان سيوصله إلى فلسطين.

لم يعدْ ياسر عرفات إلى فلسطين ليُدفنَ في أرضها إلا بعد خروجه من لبنان، وبعد إدراكه أن عليه التعاطي مع موازين القوى السائدة في العالم بعيدا عن الأوهام. لم يحقق الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ما كان يصبو إليه.

الأكيد أن إسرائيل لم تساعده في ذلك. لكنّ ما لم يساعده، أكثر من أيّ شيء آخر، هو الاعتقاد أنّ في استطاعته ممارسة ضغط عسكري عليها. ظنّ ذلك وذهب حتّى إلى استيراد أسلحة من إيران عن طريق السفينة “كارين آي”. من يتذكّر قصة “كارين آي” التي كانت فخا إيرانيا نصب لـ”أبوعمّار” فسقط فيه، مثلما سقط قبل ذلك في كلّ الأفخاخ التي نصبها له حافظ الأسد في لبنان.

الحقيقة، التي تؤكدها الوقائع، أن قوّة لبنان كانت في استخدام العقل. حافظ لبنان على أرضه عندما رفض المشاركة في حرب 1967.

لماذا لم يكمل في طريق استخدام العقل بغية حماية نفسه وتجربته؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوّة وإلحاح هذه الأيّام بعدما فوّت لبنان كل الفرص التي تلت “الربيع العربي” وزجّ نفسه في الحرب السورية. كان مفترضا بلبنان البقاء بعيدا عن تلك الحرب، والتعاطي مع موضوع اللاجئين السوريين عن طريق إقامة مخيمات لهم في مناطق معيّنة كي تسهل إعادتهم إلى بلادهم متى تسمح الظروف بذلك.

هل يستعيد لبنان لغة العقل ويستوعب أن لا وجود لشيء اسمه “مقاومة اقتصادية”؟ من يعتقد أنّ هناك “مقاومة اقتصادية” يجهل حجم الضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية على إيران، ويجهل خصوصا ماذا تستطيع هذه الإدارة عمله في حال قرّرت تدمير لبنان اقتصاديا من منطلق سيطرة “حزب الله”، وبالتالي إيران، على القرار السياسي اللبناني.

هذا ليس وقت التبجح والبطولات التي لا طائل منها. هذا وقت تفادي التضحية بلبنان من أجل إيران. من يمتلك الحدّ الأدنى من مقومات رجل الدولة يصارح اللبنانيين بما يبدو أنّهم مقبلون عليه. هذا ما فعله رجل شجاع اسمه سعد الحريري قال للبنانيين ما يجب قوله محذرا من أن يحلّ ببلدهم ما حل باليونان. بالنسبة إلى اقتصاد اليونان ومصارفها، كان هناك تدخل أوروبي. من سيتدخل من أجل إنقاذ لبنان عندما تقع الكارثة؟

ثمّة حاجة أكثر من أي وقت لإفهام اللبنانيين أن بلدهم يمرّ في مرحلة حرجة، وأنّ عليهم استيعاب ما هي موازين القوى في المنطقة والعالم. لا يشبه النظام السوري الذي يعتقد بعض السذّج أنّه استعاد عافيته، سوى نظام صدّام حسين. هرب ذلك النظام من أزمته الداخلية في العام 1990 إلى مغامرة مجنونة في الكويت. كان في لبنان وقتذاك من يراهن على صدّام حسين. ماذا كانت نتيجة ذلك غير تكريس الاحتلال السوري لكلّ لبنان انطلاقا من تمكن الجيش السوري من دخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة.

لعلّ أوّل ما يفترض أن يعمله الزعماء اللبنانيون، بمن في ذلك الزعماء الشيعة الذين لا ينتمون إلى “حزب الله”، اتخاذ موقف صريح وشفاف ينطلق من فكرة التعاطي مع الواقع بعيدا عن الأوهام. يفترض بهؤلاء الزعماء الشيعة القول لـ”حزب الله” إن لبنان أهمّ من إيران، وإن إيران لا يمكن أن تبقى في لبنان، مثلما أنّه لا يمكن أن تبقى في سوريا أو العراق أو اليمن في المدى الطويل.

يؤكد الواقع أن لدى لبنان الكثير مما يمكن أن يفقده في حال استمرّ في اتباع نهج التحايل على الإصلاحات المطلوبة والاستمرار في سياسة مبنيّة على أن “حزب الله” حزب لبناني. إذا كان “حزب الله” لا يقول عن نفسه إنّه لبناني، كيف يمكن لأي مسؤول لبناني تبني هذه النظرية المضحكة – المبكية؟

أخيرا، الواقع يقول إن إيران لا يمكن أن تنتصر في الحرب الدائرة مع الولايات المتحدة. تستطيع إلغاء الاتفاق في شأن ملفّها النووي. مثل هذا القرار لا يقدّم ولا يؤخر في شيء.

مشكلة أوروبا والولايات المتحدة مع إيران ليست في ملفّها النووي. مشكلتها في ما يتجاوز الملفّ النووي، أي في صواريخها الباليستية وفي سلوكها خارج حدودها. ليس لدى إيران من حلّ لأزمتها الداخلية غير الهرب المستمر إلى خارج حدودها، بما في ذلك إلى لبنان.

هل في لبنان من يريد استيعاب ذلك والقول إن مصلحة لبنان تقضي بالبحث عن صيغة لموازنة جديدة للدولة تأخذ في الاعتبار أن العالم ليس جمعية خيرية. الأهمّ من ذلك كلّه أن يكون هناك صوت شيعي يقول إن لعبة “المقاومة” و”الممانعة” عفا عنها الزمن، وإن على لبنان التعاطي مع الواقع وليس مع أوهام من نوع أنّ “حزب الله” حزب لبناني. نعم، هناك حاجة إلى صوت شيعي يصالح لبنان مع الواقع لا أكثر.