يتجه المرشد إلى الصمت حيال تصريحات روحاني وظريف بانتظار حقائق التنازلات لإعطاء الانطباع أن ثمة دولة في إيران تتعاطى بدبلوماسية الحوار بمعزل عن ولاية المرشد المتشددة.
 

تنطبق حالة اللاحرب واللاسلم على الصراع بين الإدارة الأميركية والإرادة الإيرانية، بما تمثّله المؤسسة الدينية للمرشد علي خامنئي في رؤيتها لاستقرار نظامها السياسي ومشروعها في تمدد صادرات ثورتها، ولو على حساب الشعوب الإيرانية ومعاناتها الإنسانية، لكن ذلك كما يبدو من سياق تصاعد الأزمة لا يمكن أن يستمر بالأسلوب الذي يتمناه المرشد في تأمين الإبقاء على السلطة التي أغرقت المنطقة بشعارات المقاومة، وما جرّته من ويلات ودمار على أهل العراق وسوريا ولبنان واليمن.

الرهان سيكون على مردودات العقوبات الاقتصادية وما ستأتي به الأيام من تذمر المواطنين الإيرانيين نظراً إلى مستويات التضخم والبطالة والفقر، بما يتحول منها إلى نقمة على النظام قد تتخذ شكل الاحتجاجات أو الانتفاضة كما حصل في ديسمبر 2017 وكانت بمتناول أدوات القمع للحرس أو قوات الباسيج، وهي التظاهرات التي شجعت المجتمع الدولي والإدارة الأميركية تحديداً لتلمس أهداف العقوبات رغم التوقعات المبنية على خارطة سنوات من عمر النظام، كانت فيها الشعوب الإيرانية وقواها المدنية تدفع الثمن غالياً من حياتها في عذابات السجون والتعذيب والإعدامات.

نظام الملالي يؤمِن سلطته بأكثر من 125 ألفا من قوات حماية النظام، عدا عن قوات المتطوعين والأجهزة الأمنية الأخرى، لذلك فإن الإبقاء على طول مدة العقوبات والمناوشات الإعلامية يوفر أرضية لمبررات الاستهلاك الداخلي بدعوات الصمود ضد الأطماع الخارجية، حيث تزداد بموجبها الاعتقالات التعسفية ضد المناوئين من طلاب الجامعات أو العمال الذين يتم تسريحهم من أعمالهم، نتيجة الكساد والركود الاقتصادي الذي يضرب بقوة قطاعات واسعة من أسواق العمل، وكذلك الأمر مع التجار والفلاحين والناقلين.

الاحتراز من الثورة الشعبية دعا خامنئي إلى شن حملة على الأسلحة غير القانونية مستبقاً ما ستنحدر إليه الأوضاع مع بداية مايو في تصفير صادرات النفط الإيراني التي يستعد لها النظام بتوقع أسوأ الاحتمالات، ضمن واقعية سياسة اللاحرب واللامفاوضات، وبما يروّج له إعلام الحرس الثوري بعد تعيين القائد الجديد حسين سلامي، وبما جاء في اعتراف قاسم سليماني قائد فيلق القدس في حفل التنصيب من أن الحرس يعيش فترة صعبة، وهذا تقييم لأهمية الحرس في الحياة الاقتصادية بحجم تمويله لاحتياجات النظام والأذرع الميليشياوية على مساحة التمدد الإيراني.

أي إن العقوبات الاقتصادية تقع في مرماها تحت سقف عدم الاعتراف بحتمية الذهاب إلى طاولة المفاوضات كما يراها قاسم سليماني، أو بالأحرى المرشد خامنئي، لأنهما يدركان أنها بداية طريقهم للتنازلات، وهذا يفتح الباب لإنتاج المزيد من الانقسامات بما يخدم المرشد والحرس من جهة باعتبارهما من رموز المؤسسة الدينية في ولاية الفقيه، ومن جهة أخرى المؤسسة الرسمية الحاكمة أيضا التي يقودها الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.

يتضح أن محتوى الصراع مع الإدارة الأميركية يراد له من قبل إيران أن يتعاطى مع قطبين متناقضين أحيانا، لكنهما يؤديان خدمات المناورة في عدم قطع الخيوط بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والنظام الإيراني من خلال التلاعب بالتصريحات والأساليب حيث التشدد والمرونة في لعبة ستؤدي بالتأكيد إلى كثير من الإسقاطات على الشعوب الإيرانية وتضع نظام الملالي بشكل عام على شفا حفرة الاشتباك، وعندها ستُلقى التبعات على روحاني وظريف اللذين يقترحان إجراء مفاوضات معلنة بشروط شعبوية تطالب بتخفيف الضغوط أو الاعتذار، لكن الفحوى في النص القابل للتفاوض في إصرار المرشد وحرسه على قدرة الرد على الهجمات الأميركية إن وقعت.

هنا نستذكر وصية المرشد خامنئي إلى رئيس وزراء العراق عادل عبدالمهدي بأهمية التسريع بإخراج القوات الأميركية من العراق، ولأن المرشد من موقعه يمثّل الولي الفقيه بصفته الأيديولوجية العقائدية. فالرغبة أو الوصية لها أبعاد فقهية تقترب من الفتوى المُلزِمة بما تلقيه من تبعات على مقلّديه وهم كثر من الميليشيات التي تبوأت مقاعدها من البرلمان وصار لها صوت مسموع في التشريع لأي قرار رغم أن تحالف الفتح الذي يمثّلها لم يعد مُهيمنا على البرلمان. المهم أن المرشد يعطي الانطباع بأن ساعي البريد في العراق يؤدي مهمته في توصيل الرسائل ومنها المسلحة إلى القوات الأميركية عند الحدود الفاصلة في المواجهة.

وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أثناء تواجده في نيويورك زجّ بنفسه في مطبّ الرهائن ومقايضتهم في محاولة ابتزاز صريحة يرفضها العالم المتمدن لصلتها بالحقوق الأساسية للإنسان، وذلك من بعض تجليّات سياسة التشدد للنظام الإيراني ككل ومنها التهديد بالانسحاب من الاتفاق النووي والبدء الفوري بتخصيب اليورانيوم، بما يعنيه من اعتراف ضمني بطموحات إيران في توجّهها لإنتاج السلاح النووي.

يتجه المرشد، كما هو واضح، إلى الصمت حيال تصريحات روحاني وظريف بانتظار حقائق التنازلات لإعطاء الانطباع أن ثمة دولة في إيران تتعاطى بدبلوماسية الحوار بمعزل عن ولاية المرشد المتشددة، والمعروف أن للصمت غايات في السياسة تتعدى مكانة المرشد الروحية في قراءة لما ستؤول إليه الوقائع عند حافات المواجهات أو بداياتها الصارخة.

عندها سيكون روحاني وطروحاته في تقبل التفاوض وبما يمهد له ظريف لا يخرجان عن نطاق الهزائم الشخصية لساسة فاشلين سيجتازون تاريخ مواقعهم الوظيفية إلى حيث ستتناوشهم تقريعات المرشد وزعماء حرسه لعدم قدرتهم على “مواجهة الاستكبار العالمي” للبدء في البحث عن وجه جديد لا نستبعد أن يكون قاسم سليماني أو أحد قادة الحرس الثوري كمعادل لردة فعل تعاود تنشيط مهمات المشروع الإيراني ولو على مستوى المعنويات وما يدور في خلد ولاية الفقيه، لكن 40 سنة من سيناريو الانحطاط والإحباط في المنطقة تكفي لأن يتجرّع النظام كأس السم هذه المرة إلى آخر قطرة.