هل انّ إحياء رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط لإشكالية مزارع شبعا يدخل في إطار ملاقاة الاستعدادات الأميركية لـ»صفقة القرن»، أم يندرج في سياق الرسائل بينه وبين «حزب الله» بأنه سيستعيد خطابه الوطني في حال الإمعان في استهدافه وتطويقه؟
 

لا يمكن تجاهل حالة الحصار التي يعيشها جنبلاط، إن درزياً، بعد تجاوز النائب طلال ارسلان والوزير السابق وئام وهاب الأدبيات السياسية المُستخدمة، حدود المصلحة الدرزية أولاً، فهناك جرأة غير مسبوقة في التعاطي مع الحالة الإشتراكية. وإن مسيحياً، بعد فشل محاولات جنبلاط إرساء علاقات ثابتة مع العهد وشعوره أنّ التبريد من جانبه لم يُقابل بمثله، انما تواصل دعم الحليف الإرسلاني، وتواصلت معه لغة التحريض مع الوزير جبران باسيل في قدّاس «المصالحة والغفران» وفي كلام وزير المهجرين غسان عطاالله في كل وقت وحين. وإن شيعياً، في ظل شعوره أنّ أطر التنسيق مع «حزب الله» لم تشكّل له الحماية المطلوبة من تحريض النظام السوري المتواصل عليه ومحاولاته العبث داخل البيئة الدرزية. وإن جنبلاطياً، أي داخل البيت الجنبلاطي، مع عدم سطوع نجومية نجله تيمور. وإن دولتياً، من خلال ربط النزاع معه عند أي تعيين في الدولة.

لكن، في موازاة هذه الصورة التشاؤمية لا يمكن التقليل من نقاط القوة التي يحظى بها جنبلاط، إن لجهة حيثيته الدرزيّة وكونه الأقوى درزياً من خصومه مجتمعين. وإن لناحية رسوخ علاقته مع الرئيس سعد الحريري على رغم التباينات الموسمية. وإن لجهة ثبات علاقته مع الدكتور سمير جعجع وخوضهما معاً ثلاثة استحقاقات نيابية، وتفضيله هو عدم تطوير العلاقة أكثر تجنباً لتنفير «حزب الله»، وإن لناحية علاقته الوثيقة والعميقة مع الرئيس نبيه بري، وإن لجهة علاقاته وصداقاته الخارجية.

فكل طرف سياسي لديه خصوم وحلفاء، ويتعرّض لمواجهات ومحاولات حصار، وستشهد وضعيته السياسية مداً وجزراً، وهذا أمر بديهي وطبيعي. وحالة جنبلاط تشبه كل الحالات الأخرى مع تفاوت في «الدوزاج» او النسبة صعوداً او هبوطاً، ولا يجب تحميل المسألة أكثر مما تتحمّل، حيث انّ ما يحصل يدخل من ضمن شروط الحياة السياسية او اللعبة السياسية.

وما يجب تجنّبه هو سوء التقدير السياسي، والمقصود بذلك انّ اي اتفاق مع العهد لا يمكن ان تكتمل فصوله في حال لم يتعهّد جنبلاط بدعم باسيل رئاسياً، وبالتالي في حال عدم إقدامه على هذه الخطوة فإنّ باسيل سيحافظ على تحالفاته الدرزية، ولا يجب عليه ان ينتظر من «حزب الله» ان يتعامل معه على غرار تعامل النظام السوري في الحقبة الذهبية للعلاقة بينهما، لانّ خياره الاستراتيجي كان مع النظام السوري آنذاك، فيما خياره الاستراتيجي اليوم ليس مع الحزب، وبالتالي لا يمكن ان يطلب منه التخلّي عن تحالفاته الدرزية التي يجدها معه في السرّاء والضرّاء.

فوضعية جنبلاط لا تختلف عن وضعية أي شخصية سياسية أخرى، ولديه الكثير من أوراق القوة التي تجعل خصومه يحسبون له ألف حساب، ولكنه يدرك أكثر من غيره دقّة الظرف السياسي، وهو القائل أنّه «ينتظر جثة عدوه عند ضفة النهر»، ما يعني انه سيكون في موقع المتفرِّج على الأحداث الكبرى لا اللاعب والمتدخِّل فيها خلافاً للمرحلة الممتدة منذ العام 2000 وحتى العام 2008، ولا يبدو انّ رئيس «الإشتراكي» قرّر الخروج من موقع المتفرِّج الى موقع اللاعب توازياً مع التطورات المتسارعة في المنطقة، بدءاً من اشتداد العقوبات الأميركية على طهران وصولاً الى «صفقة القرن» والتحوّلات المرتقبة في المنطقة.

ولا مؤشرات تدلّ الى انّ جنبلاط قرّر ملاقاة التطورات الخارجية، بل كل المؤشرات تؤكّد خلاف ذلك، لجهة انتقاده سياسة واشنطن في المنطقة وانحيازها المطلق لإسرائيل، وخطواتها الفاقدة للغطاء العربي والإسلامي. وقد عبّر صراحة عن هذا الموقف مباشرة بعد لقائه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو. وأما لمن يستهوي الكلام عن «انتينات» جنبلاط والتقاطها مؤشرات خارجية حاسمة، فإنّ هذه «الانتينات» بالذات ستدفعه الى التمسّك بسياسته القائمة على مبدأ الانسحاب من الملفات الكبرى الى الملف المتصل بدوره وطائفته، لانّ الأحداث المتصلة بالعقوبات و»صفقة القرن» أكبر من المختارة ولبنان وحتى الضاحية. وسياسة الانتظار «على ضفة النهر» ما زالت تحكم السياسة الجنبلاطية.

ولكن الانسحاب الى الملفات الداخلية لا يعني الذوبان ولا السماح بمحاصرة المختارة ومحاولة الإطباق عليها. فهناك شعور لدى جنبلاط، وآخذ بالتنامي، انه منذ انتخاب عون رئيساً للجمهورية مروراً بالانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة والتعيينات العسكرية والإدارية وصولاً الى معمل الإسمنت في عين دارة، وكأن ثمة قراراً ما بتطويق تدريجي وعلى طريقة القضم التدريجي، فرفع الصوت ليقول لـ»حزب الله» انه اذا كان هناك من قرار للتخلّص منه بـ»القطنة» فلن يمرّ.

وكلام جنبلاط عن مزارع شبعا لا يشكّل جديداً في المضمون، كون المزارع أممياً ليست لبنانية، ولا يفيد في شيء، بالنسبة الى المجتمع الدولي، اعتبار شبعا لبنانية ما لم يُصر الى توثيقها عن طريق تأكيد سوري. والردود على جنبلاط لا قيمة لها خارج إطار المزايدة، ولكن أهمية موقف جنبلاط هذه المرة تكمن في الشكل لجهة توجيهه رسالة الى «حزب الله» مفادها، انّ اي موقف يمكن ان يطلقه من ملف خلافي، قادر على إشغال البلد وتوتيره وإحياء الانقسام السابق، كما إحياء رهانات البعض على أدوار متقدّمة وجريئة لجنبلاط.

وهذا لا يعني انّ جنبلاط يضع «حزب الله» امام خيار التعامل جدياً مع هواجسه والتدخّل لوقف محاولات محاصرته من قِبل حلفاء الحزب وربما بغطاء منه، وإلّا الشبك مع التطورات الخارجية، ولكن على الحزب ان يدرك انه لا يستطيع التعامل بخفة مع هذه الهواجس، وانّ مقدار دعمه للمعارضة الدرزية لا يجب ان يتجاوز مقدار دعمه للمعارضة السنّية التي أدخلها إلى الحكومة وانتهى الموضوع وانتهى معه «اللقاء التشاوري».

فعدا عن كون جنبلاط الأقوى درزياً في لبنان وخارجه، ولكن لديه ايضاً تحالفات داخلية وثيقة وعلاقات خارجية قوية. ويخطئ الحزب اذا ظنّ او اقتنع بنظرية انّ جنبلاط انتهى، والتجارب مع هذا الرجل وطائفته تفيد انها وقت الخطر تهبّ هبة واحدة وبلا حسابات، ولذلك لا مصلحة بالإمعان في التضييق عليه.

وإذا كان معمل الإسمنت في عين دارة هو بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير» بين «حزب الله»، الذي لا يريد ان يشكّل قرار الوزير ابو فاعور سابقة لجهة كسر قرار وزرائه وكأن شيئاً لم يكن، وبين جنبلاط الذي يعتبر انّ قرار المعمل اتُخذ من دون مشورته أصلاً وفي منطقة لا نفوذ فيها للحزب الذي لا يقبل بالتأكيد قراراً مماثلاً في الضاحية الجنوبية، فإنّ جنبلاط قد رغب في رفع السقف السياسي في موقف تحذيري وبمفعول رجعي، انّ الأمور لا يمكن ان تستمر على هذا النحو، ولا شك في انّ الحزب قرأ الرسالة جيداً.

فالأمور مرشحة ان تبقى تحت السقف، واللقاءات المشتركة بين «الإشتراكي» و»حزب الله» مرشحة أن تُستأنف، وما حصل ما زال في إطار الرسائل التي لن يهملها الحزب، في مرحلة هو أحوج ما يكون فيها للتفرّغ لتطورات المشهد الخارجي التي تستدعي الحفاظ على تبريد الساحة الداخلية.