على وقع التظاهرات التي أنطلقت صباح اليوم، يبدأ مجلس الوزراء اليوم خطوته الأولى في مسيرة الألف ميل، في ما يشبه السباق الماراتوني بين درس مشروع موازنة العام 2019 تمهيدًا لإقراره، مع ما فيه من إجراءات موجعة لا بدّ منها، وبين نبض الشارع الذي يغلي، بعدما تداعى المتعاقدون من مدنيين وعسكريين إلى التظاهر إحتجاجًا على إقتطاع ما نسبته ما يقارب ال 11 في المئة من مستحقاتهم.

فالموازنة، التي رفعها وزير المال إلى مجلس الوزراء في صيغتها المعدّلة والنهائية، قابلة للتعديل وفق نظرة كل فريق داخل السلطة التنفيذية قبل إحالتها إلى رئاسة مجلس النواب، التي ستحيلها بدورها إلى لجنة المال والموازنة، والتي ستدخل حتمًا عليها تعديلات أساسية، وفق ما يقول رئيسها النائب ابراهيم كنعان، الذي يتحدث عن مقاربة جديدة للأرقام الواردة في مشروع الحكومة، خصوصًا لجهة وقف الهدر وإستعادة الدولة لأموالها "المنهوبة"، وهو شعار رفعه المتظاهرون اليوم.

وفي ضزء هذا التسابق يكثر الحديث عن المس بالمعاشات التقاعدية لموظفي القطاع العام في الدولة مدنيين وعسكريين، ووفق مصادر العسكريين المعتصمين، فإنه غاب عن الكثيرين الحقائق الآتية:
أولاً: إن المعاشات التقاعدية ليست سوى حصيلة محسومات تقاعدية تُقتطع من رواتب الموظَّفين المدنيين والعسكريين في الخدمة الفعلية وتوضع في خزانة الدولة كوديعة لحساب التقاعد كما نص أول قانون تقاعد العام 1929، من دون أن تُسهم الدولة بأي قرش واحد فيها. 

ثانيًا: إن هذه المحسومات أكثر من كافية لتأمين المعاشات التقاعدية، الأمر الذي دفع بالمشترع إلى تخفيض هذه المحسومات من 7% من رواتب الموظفين في الخدمة الفعلية إلى 5% بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 13 تاريخ 7/1/1953، ومن بعدها راوحت النسبة المئوية ما بين 5 و7% حتى استقرَّت على 6% في القانون 47/1983 المعمول به حاليًا.

ثالثًا: صحيح أن الدولة هي التي تدفع المعاشات التقاعدية ولكن ليس من أموالها كما يعتقد الكثيرون وإنما من وديعة المحسومات التقاعدية التي لم تسهم الدولة فيها.

رابعًا: إن وضع هذه المعاشات التقاعدية لموظفي الدولة لا يختلف إطلاقًا عن وضع غيرها من المعاشات التقاعدية في الروابط والنقابات مثل نقابة المحامين والمهندسين والقضاة والأطباء وغيرها التي تجمع في صناديقها رسوم الاشتراكات والتبرعات ورسومًا أخرى مختلفة لتدفع في النهاية من هذه الصناديق فحسب المعاشات التقاعدية للمنتسبين إليها.

وتذكّر هذه المصادر بما نصّت عليه إن المادة السابعة من الدستور اللبناني وقد جاء فيها حرفيًا على الآتي: "كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتَّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم".

أيًّا تكن نتائج ما ستسفر عنه مداولات مجلس الوزراء، الذي يستمع في جلسته اليوم إلى مطالعة من الوزير خليل، وكذلك ما ستؤول إليه تحركات العسكريين المتقاعدين، فإن ثمة قناعة راسخة لدى جميع المسؤولين، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية، الذي يعرف جيدًا حقيقة ما يطالب به هؤلاء العسكريون، بأن المعالجة الحقيقية لعجز الموازنة لا يكون بالمسّ بحقوق الموظفين ورواتبهم وتعويضاتهم، حتى ولو كانت هذه الإجراءات جزءًا مكّملًا لسلة من الإصلاحات، التي تبدأ بإستعادة الدولة ما حُرمت منه على مدى سنوات، ووضع سياسة هادفة تمكّن المسؤولين على مقدرات البلد من وضع حد لحال الفساد المستشري وختم الجرح المالي النازف بالشمع الأحمر. 
 

(أندريه قصاص)