عندما دعي الحضور الى الوقوف دقيقة صمت حداداً، وقراءة الفاتحة القرآنية، أو الإنجيلية، علت الإبتسامة الوجوه، وتردد صوت بعض الضحكات في زوايا القاعة. لوهلة، بدت الدعوة وكأنها مزحة، أو تجربة يخضع لها المشاركون في المؤتمر العلمي الرصين، الذي لا يتناسب عنوانه ولا طابعه ولا هدفه، مع تلك الطقوس.

لكن المؤرخ والكاتب السوري عبد الله حنا، لم يكن يمزح أبداً عندما افتتح بتلك الدعوة المفاجئة، الجلسة الاولى من أعمال المؤتمر السنوي السادس للدراسات التاريخية، الذي نظمه المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات-فرع بيروت، في أحد فنادق العاصمة اللبنانية، تحت عنوان: "الحكومة العربية في دمشق 1918- 1920": هبّ واقفاً على المنصة، وشرع في التمتمة، لكي يزيل تردد المشاركين الذين وقفوا تباعاً، إما بدافع الحرج او بدافع الحشرية التي لا تخلو من الاستغراب.


لم يكن الحداد الذي طلب المؤرخ السوري التعبير عنه، خارجاً عن سياق المؤتمر، بل كان في صلبه. فالحكومة العربية الاولى التي شكلها الملك فيصل الاول في دمشق قبل قرن مضى، هي أول وآخر حكومة عربية بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث لم يتمكن العرب من بعدها من إقامة حكم يعكس هذا القدر من الوحدة القومية، ويتمتع بهذا المستوى من الوعي السياسي، ويستند الى دستور هو من أرقى الدساتير المدنية التي كتبها العرب حتى الآن، وأكثرها تطوراً وإنسجاماً مع معايير الحرية والمدنية وحقوق الإنسان، حتى المعاصرة منها.


لكن حماسة المؤرخ عبد الله حنا سرعان ما خبت، عندما شرع هو نفسه في تفنيد تلك التجربة وفي شرح معوقاتها الذاتية والتعريف بالشرائح الاجتماعية، السورية تحديداً، التي تصدت لها، والتي كانت أحد أهم أسباب إنهيارها السريع، من دون أن يتخلى عن موقفه الطامح الى توفر ظروف تسمح بقيام مثل هذه الحكومة، برغم أن الامر، بإعترافه الصريح، يرقى الى مستوى الاستحالة، ولا يعدو كونه تعبيراً عن أمنية، فرضتها أحوال الأمة الراهنة، حيث ترجح أي مقارنة موضوعية، كفة النموذج الفريد الذي قدمه العرب منذ مئة عام، وتبرر وقفة الحداد الطريفة.


وعلى غير هذا المنوال، جرت أعمال المؤتمر في يوميه الحافلين. فقد كان دأب الباحثين تقديم قراءات نقدية عميقة، لتلك التجربة، من دون اسقاط حقيقة أنها الخروج العربي الاول من سبات تاريخي دام أكثر من ألف عام، ودليل حسي ملموس على هويتهم وثقافتهم ووعيهم المشترك، الذي نما في رحم العثمانية وإنفصل عنها عندما إنفصلت عن أكثر من نصف رعاياها وتركتهم في العراء، هدفاً للطامع الاوروبي الذي تسلل الى ولاياتهم في ظل دولة الخلافة ومن دون إعتراضها.


في البدء، جرى تسليط الضوء الكاشف على ذلك التسلل، او بالاحرى على العامل الخارجي الذي أدى الى سقوط تلك التجربة قبل ان يكتمل نموها، لكن معظم الابحاث والاوراق ركزت على العوامل الداخلية المعطلة لذلك النمو، وتجرأت  في مقاربة مكامن الخلل في القيادة وفي النخبة وفي قلة الخبرة والكفاءة، التي ساهمت في تحويل الحساسيات القاتلة، الى هزيمة ساحقة، في ميسلون. وبدا ان المؤتمر في مجمله يقوم بعملية نقد ذاتي مستعاد، لكنها مبنية على مصادر إضافية ووثائق كانت مهملة، ومذكرات لشخصيات ومراجعات لكتب وصحف من ذلك الزمان.


الاضاءة على تلك التجربة الخاطفة من التاريخ العربي، لم تكن مجرد حافز للاستنتاج بأن العرب ما زالوا هناك ولم يغادروا مطلع القرن العشرين، برغم الرأي السائد بأن الراهن أسوأ بما لايقاس. يمكن بسهولة الإفتراض أن التاريخ السياسي العربي، بدأ في العامين 1918 -1920، وإنتهى في تلك المرحلة. وكل ما تلاه كان معبراً عن حنين الى الحكومة العربية الاولى، تلاشى مع مرور الزمن حتى يكاد ان يضيع اليوم .


أما إسقاطات تلك التجربة الفاشلة على الوضع الحالي، السوري خاصة، فقد كانت واحدة من التمارين الصعبة التي جرت مزاولتها في كواليس المؤتمر وهوامش أوراقه، من دون علم أو قصد المنظمين والمشاركين، الذين يرون أن العثور على أوجه الشبه بين دمشق 1919 ودمشق 2019 ، هو محض خيال.