لم يفتح وليد جنبلاط سجال لبنانية مزارع شبعا أو عدمها عن عبث. وليس صحيحاً كما يروّج أنه عبّر عن ذلك غضباً، أو كـ"فشّة خلق". إحالة تصريح جنبلاط إلى هذا الجانب، فيه مواربة سياسية، وبعض من تسخيف القضية، وحصرها في جانب شخصي ومصلحي. لكنها في الحقيقة مختلفة عن ذلك كلّياً. يفتح جنبلاط ملف المزارع، في لحظة مفصلية تمرّ بها المنطقة، ويعاد فيها رسم الخرائط والحدود الجغرافية. وينطلق فيها من حسابات بعيدة، تتعلق بالخوف على تلك المزارع من القرار الأميركي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. ومزارع شبعا وفق الأمم المتحدة، هي تابعة للجولان. ما يعني أنها ستكون مستلحقة بالأراضي المحتلة وغير خاضعة للقرار 425.

لعبة النظام السوري
القوات الدولية الموجودة في مزارع شبعا هي قوات "الإندوف"، وليس قوات اليونيفيل. وهذا مؤشّر على أن الأمم المتحدة تعتبر مزارع شبعا سورية، وتابعة للجولان، وليست لبنانية. وفي هذا السياق يأتي موقف جنبلاط، كعامل تحفيز للدولة اللبنانية للعمل مع مختلف الجهات الإقليمية والدولية لإثبات لبنانية المزارع، وانتزاع اعتراف من قبل النظام السوري بذلك، بدلاً من إبقائها معلّقة، وغير واضحة "الهوية". يعرف جنبلاط أن المزارع لبنانية، لكن عدم القدرة على إثباتها يعود إلى عدم ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، بسبب رفض النظام السوري لذلك، وإبقاء لبنان والمزارع، ورقة قادر النظام على استخدامها لحظة يشاء. 

كان هناك في جانب من مزارع شبعا مخفراً سورياً مثلاً، وهذا بسبب عدم ترسيم الحدود، وقد سيطر السوريون على تلك المنطقة في العام 1959، بعد ثورة العام 1958، ولا تزال خاضعة لهم من الناحية النظرية والقانونية نسبياً، بمعزل عن الملكيات اللبنانية على بعض أراضيها أو عقاراتها. وما يسري على المزارع يسري على غيرها من المناطق، كقرية الطفيل مثلاً، وهي بلدة لبنانية لكنها تعتبر نظرياً داخل الأراضي السورية، وأهلها يستخدمون الليرة السورية. وكما الطفيل، كذلك بالنسبة إلى بعض القرى اللبنانية في الهرمل، والتي تعتبر "قرى لبنانية داخل الأراضي السورية". بمعنى أنها لبنانية كملكية عقارية وكسكن، ولكنها خاضعة لسيادة سوريا.

أسلوب جنبلاط
انطلق وليد جنبلاط من موقف، بعد تعبير المسؤولين اللبنانيين عن خشيتهم على مزارع شبعا، من دون اتخاذ أي إجراء عاجل، لتثبيت لبنانيتها وانتزاع الاعتراف من النظام السوري. ولذلك، هو يضع موقفه في سياق التحفيز على إثبات ذلك، وليس ما يحفّز أكثر من استخدام لعبة استفزازية تدفع الآخرين إلى البحث عن ردّ عملاني على ذلك الاستفزاز. فمثلاً لو خرج وليد جنبلاط وعمل على إطلاق نصيحة بأنه يجب على الدولة اللبنانية أن تعقد اجتماعات لتثبيت لبنانية المزارع، لما كان لموقفه أن يأخذ هذا المدى من الضجة.

والأهم من ذلك، أن جنبلاط يتقن فنّ إرسال الرسائل. وعلى طريقته، يتخذ موقفاً كهذا لتحريك مياه راكدة، وللإشارة إلى أبعاد قد لا تكون ظاهرة حالياً، خصوصاً في ما يتعلّق بإعادة رسم الخرائط ما بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة. ولذلك، يعتبر جنبلاط أن النظام السوري - وفي إطار صفقة الرفات مع الإسرائيليين وغيرها من الصفقات - يتنازل فعلياً عن الجولان، بمعزل عن المواقف التي يطلقها، مقابل إعادة تعويمه، عملاً بمقولة سابقة لحافظ الأسد يوم سقطت الجولان، بأنهم خسروا الأرض لكنهم ربحوا النظام. وكأن الجولان هو "صفقة" قوامها التخلي عنه لإسرائيل مقابل إعادة تعويم النظام سياسياً ودولياً. ولذلك، يعبّر جنبلاط عن خشية من أن يطال التنازل عن الجولان تنازلاً عن مزارع شبعا، ما لم تسارع الدولة اللبنانية إلى تثبيت لبنانيتها.

المنطق التخويني 
جوبه جنبلاط بمنطق تخويني، او بأنه "يفشّ خلقه"، بسبب خلافه مع حزب الله حول معمل فتوش للإسمنت في عين دارة، وخرج بعض السياسيين لاعتبار أن مزارع شبعا كانت ستكون لبنانية بالنسبة إلى جنبلاط لو تم إقفال معمل الإسمنت، أو أصبح شريكاً فيه. وبالتالي، فإن التعاطي مع طرح جنبلاط والردّ عليه يأتي في سياق حملة مضادة لكشف الفضائح. فاختار جنبلاط الردّ على طريقته، ووضعه في إطار كمن يكشف فضيحة، هي فضيحة التنازل عن مزارع شبعا، كما فضيحة التنازل عن الجولان، وما سيكون لذلك من تبعات سياسية في أعقاب التصعيد الأميركي ضد إيران، والذي قد يذهب مؤخراً إلى مفاوضات ناجعة بين الطرفين، بعد كل الضغوط. ما يعني أن تتحول حينها مزارع شبعا ثمناً للتسوية السياسية الكبرى، كما كانت سابقاً ثمناً لاستمرار المقاومة واستثمارها من قبل النظام السوري بعد العام 2000.

صحيح أن توقيت كلام جنبلاط يمثّل لبساً لبعض القوى، لكنه جاء في سياق ثلاث رسائل أطلقها جنبلاط، رسالة لبنانية المزارع، ورسالة إلى روسيا عندما قال إن رئيس النظام السوري هو أكبر كذّاب في العالم وهو صديق روسيا، وكشفه رسالة الأسد عبر الروس إلى إسرائيل، وتحديداً نتنياهو، حول عدم إضرار الدولة العلوية بإسرائيل. إذاً يستهدف جنبلاط في موقفه ثلاث جهات، حزب الله، النظام السوري، وروسيا.

الدفاع عن النفس
هذا الكلام يعني أن جنبلاط لم يعد قادراً على السكوت، على كل ما يتعرّض له من ضغوط، سواء من قبل النظام السوري وحزب الله والتيار الوطني الحرّ، الذين يعملون على تسجيل اختراقات وزرع الشقاق في البيئة الدرزية، مقابل المواقف المعسولة التي يسمعها منهم، ولكن لا تقابلها أفعال على الأرض. كما أن الرسالة إلى حزب الله تعبّر عن استغراب من قبل جنبلاط لقطع العلاقة معه، على خلفية معمل الإسمنت. والتي لا تعتبر واقعية أو مقنعة، بل يقرأ فيها جنبلاط رسالة مشفّرة حول استهدافه المستمر من قبل الحزب والنظام السوري، وصولاً إلى الحملة التي تشنّ عليه، باعتباره أنه متضرر مالياً من المعمل. وهذه تشير إلى تضييق المنابع المالية لجنبلاط أو محاصرته. أما الرسالة الأخرى إلى روسيا فهي تنطلق من عتب جنبلاط على الروس، الذين يرسلون له رسائل إيجابية حول العلاقة الجيدة والممتازة معه، ولكن في المقابل لا تشير الأفعال إلى ذلك. ويظهر أن النظام السوري المدعوم من روسيا لا يترك فرصة إلا ويعمل فيها على استهداف جنبلاط وتطويقه ومحاصرته وتصفية الحساب معه، عبر حلفائه في لبنان. أما الرسالة الأهم فهي ما قصد جنبلاط أن يقوله حول العلاقة الروسية مع إسرائيل والنظام السوري، والتي قد تنتهي بتفاهم معين، نواته تحالف الأقليات الذي يعارضه جنبلاط ويواجهه.

لا يبدو جنبلاط أنه في وارد التنازل حالياً، ولن يكون ممنوعاً من الكلام او ملتزماً بالصمت إزاء ما يتعرض له. يقول إنه سيكمل بمواقفه ليس للتاريخ فقط، وعلى الرغم من أنها قد لا تكون مؤثرة في سياق لعبة الأمم، لكنه على الأقل يريد الدفاع عن نفسه. وهناك من يقول إن وليد جنبلاط ليس كسعد الحريري، يتنازل عندما تشتد الضغوط عليه. فهو لا يمكنه أن يتنازل إلا بعد أن يحصل على ما يريد، ويحقق ضمانات حقيقية وواقعية حول التوقف عن استهدافه داخل الجبل وداخل البيئة الدرزية. وإلى حين تحقيق ذلك، لن يكون في وارد التراجع أو كف لسانه عن فضح بعض الفضائح التسووية، التي تنتجها مفاوضات سرية هنا وهناك.