،
 

كانت حرب المخيمات الفلسطينية التي خاضتها حركة أمل ضد الفلسطينيين في ثمانينيات القرن الماضي، عبارة عن صراع بين النظام السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية. كان لدى النظام في دمشق، هدف واحد وهو السيطرة على القرار الفلسطيني، وتطويع ياسر عرفات. تحوّل اللاجئون الفلسطينيون إلى عنوان للصراع السياسي. وفي تلك الفترة، اختطف مسلحون تابعون لحركة أمل وموالون للنظام السوري طائرة أردنية في مطار بيروت، للمطالبة بإخراج اللاجئين من المخيمات وإفراغها.

بمعزل عن سياق الحرب والمعارك العسكرية يومها. ثمة تشابه بالأحداث بين الصراع على اللاجئين الفلسطينيين حينها، واللاجئين السوريين اليوم. الحرب التي يتعرّض لها اللاجئون السوريون، لها أشكال وألوان متعددة، فيها الصراع المذهبي الديمغرافي، وفيها الصراع السياسي، وتبدأ بحروب نفسية عبر التضييق وحظر التجول، ولا تنتهي بالتهديد والترهيب وحملات الاعتقال أو إقفال المحال، أو التخويف بالضرب والإعتداء على الممتلكات، بغية عدم إشعارهم بوجود بيئة آمنة، ما يفرض عليهم الرحيل.

مناطق النفوذ الإيراني
في مقابل الترهيب اللبناني، تزداد اللعبة الدولية حول ملف اللاجئين السوريين تعقيداً. لم يكتف النظام السوري بالقانون رقم 10، لفرض إعادة التوزيع البشري على الجغرافيا السورية، بما يلائمه سياسياً وديمغرافياً.. فقبل أيام، بدأ النظام منهجاً جديداً في قطع الطريق على عودة اللاجئين، لا سيما المعارضين، من خلال مصادرة أملاكهم، وخصوصاً في مناطق أساسية وحساسة قريبة من الحدود اللبنانية، كريف حمص، ومنطقة القلمون في ريف دمشق. بدأ النظام يطبق سياسة الاستملاك على أملاك المعارضين، بعد أن كان حجز عليها لدى سيطرته على تلك المناطق. ولهذا التحرك أبعاد استراتيجية بالنسبة إلى النظام وبما يتوافق مع النظرة الإيرانية، في مقابل صمت روسي.

إيران تريد لتلك المنطقة أن تبقى خاضعة لنفوذها العسكري والديمغرافي، وهذا ما يلائم النظام أيضاً في منطق التجانس الاجتماعي والسياسي الذي تحدّث عنه بشار الأسد، والذي ينطلق من مبدأ أن الأرض لمن يدافع عنها وليس لمن غادرها. ويجد النظام نفسه مضطراً لإبقاء هذه المنطقة خاضعة لسيطرة الإيرانيين، مقابل صمت موسكو، التي تهتم بمناطق أخرى، كمرفأ طرطوس مؤخراً، ومناطق في شرق حمص خصوصاً الغنية بالفوسفات مثلاً. وبالتالي، لا بد من التنازل لطهران عن بعض مناطق النفوذ جغرافياً، في إطار توزع مراكز القوى داخل بنية النظام بين الدولتين.

الصراعات اللبنانية 
بمعزل عن تقييم أخطاء الدولة اللبنانية في العمل على معالجة ملفّ اللاجئين، ما أدى إلى أزمات داخل بيئة اللجوء وفي المجتمعات والقرى المضيفة، وما أثر سلباً على أوضاع اللبنانيين. فقد تحول ملف اللاجئين السوريين إلى مادة تجاذب سياسي دخلت فيه عوامل إقليمية ودولية. وبمجرد تقاذف الاتهامات بين القوى المتعارضة سياسياً، يعني ذلك أنه تم إبعاد الملف عن جوانبه الإنسانية وإدخاله في زواريب المصالح السياسية. 

حتى الصراعات اللبنانية بين القوى المختلفة على ملف اللاجئين وآلية التعاطي معه، تنطلق من حسابات بعضها سياسي، وأساسها مصلحي، سواء كان ذلك مالياً أم دعائياً شعبوياً، أم سياسياً لحسابات تتعلق بتحقيق مبتغى النظام. فأصبح الملف يُستخدم كمادة ابتزاز كثيرة الإتجاهات، عند أي خلاف سياسي بين فريقين مختلفين، يتهم أحدهما الآخر بنيته توطين اللاجئين، وعند الأزمات السياسية يتم اتخاذهم كدروع بشرية، تحت عنوان أن المجتمع الدولي يريد الحفاظ على الاستقرار في لبنان لإبقاء اللاجئين فيه، وعند الضائقة المالية، يرفع المسؤولون اللبنانيون الصوت حول عدم القدرة على تحمّل تكاليف وأعباء اللجوء، وأن لبنان لم يعد قادراً على ضبط الاوضاع على أراضيه، ولا حتى على ضبط عمليات تسرب اللاجئين باتجاه أوروبا.

السياسة التخويفية
يوم استعاد لبنان العسكريين المخطوفين لدى جبهة النصرة، كان قد أبرم اتفاقاً بحماية مخيمات اللاجئين في عرسال والبقاع، مقابل انسحاب المسلحين من المنطقة. بعد أيام قليلة على نجاح عملية تحرير العسكريين، بدأت عمليات دهم لمخيمات اللاجئين. كانت الغاية يومها واضحة، أولاً الانتقام من البيئة الحاضنة لهؤلاء المسلحين، وثانياً اعتماد سياسة تخويفية تجاه اللاجئين، لدفعهم إلى المغادرة. تلقى لبنان عشرات رسائل التحذير من الدول المعنية، ما أدى إلى تخفيف حملات الضغط.

وبما أن الملف يعود بالأرباح على مثيريه، لا سيما شعبوياً وسياسياً، بعد المنفعة المادية التي يحققها لبنان، فكان لا بد من الاستمرار في إثارة الملف ولو بطريقة إرتجالية، مقابل رفض ربط عودة اللاجئين بالحلّ السياسي، وفق توجهات الدول الكبرى والأمم المتحدة والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين. في خضم الأزمة، برزت المبادرة الروسية التي ما لبثت أن أجهضت في مهدها. ووفق تأكيدات لمسؤولين روس فإن النظام السوري له اليد الطولى في إجهاض تلك المبادرة. راهن لبنان على مبادرة موسكو للمباشرة في إعادة اللاجئين سريعاً، لكن الآمال خابت، ليؤكد الكرملين في بيان رسمي صادر عنه بعد لقاء بين الرئيسين عون وبوتين، أن نجاح المبادرة الروسية منوط بتوفير الظروف السياسية والأمنية والعودة الآمنة الملائمة للاجئين. يعني ذلك حصول توافق ولو غير مباشر بين موسكو وواشنطن على ربط ملف عودة اللاجئين بالحلّ السياسي، فازداد تدويل الملف، وإدخاله في صراعات موازين القوى.

مخيم الياسمين
قبل أشهر، تعرّضت خيم بعض اللاجئين وسياراتهم ومحالهم التجارية في عرسال، إلى عمليات تكسير وتحطيم، وبينما شجب أهالي البلدة تصرفات المعتدين، تبيّن للبعض أن ما جرى هو عبارة عن عملية ممنهجة، لتخويف اللاجئين ودفعهم إلى المغادرة. أسهمت هذه العمليات بتحفيز أعداد من السوريين للعودة إلى أراضيهم، لكن تلك العودة لم تكن مضمونة، بعضهم من اعتقل، حسب منظمات معنية بالملف، وبعضهم سُحب إلى الخدمة العسكرية الإلزامية. ما يعني أن العودة لم تكن آمنة، وآخرون عادوا إلى لبنان مجدداً.

في الأيام القليلة الماضية، دخلت قوة عسكرية إلى مخيم الياسمين في بلدة برّ الياس البقاعية، وعملت على إلقاء القبض على الرجال وتحطيم الخيم والتجهيزات، مع العلم أن المخيم أنشئ في العام 2015، من أجل استقبال النازحين الذين سيرحلون عن عرسال، التي كانت حينها ستشهد معركة عسكرية لتطهير الجرود. جرى تأجيل إنشاء المخيم وتجهيزه إلى العام 2017، إلى حين اندلاع معارك عرسال، فلجأ إليه حوالى 120 عائلة. وبقي المخيم لحالات الطوارئ التي تصيب المخيمات الأخرى، فمثلاً في الشتاء الفائت لجأت إليه حوالى 500 عائلة، بعد تعرض مخيمات أخرى لأضرار بسبب العواصف. لكن الجيش اتخذ قراراً بالدخول إلى المخيم وتدمير 120 خيمة فيه من دون أي إنذار، لأن ليس فيه أي لاجئ. يفسّر البعض تلك الخطوة بأنها تصب في خانة تخويف اللاجئين، وحثّهم على العودة، طالما أن ليس هناك أي مبادرات جدية توفر إعادة هؤلاء إلى أراضيهم. أصبح التخويف سياسة واضحة لدفع اللاجئين إلى المغادرة، بمعزل عن المصير الذي سيواجههم، أو الجهة التي سيرحلون إليها، في ظل عدم السماح لهم بالعودة إلى أراضيهم الأصلية.

بانتظار التسوية
يعرف اللبنانيون أن سياسة تخويف السوريين لن تؤدي إلى حلّ أزمة اللجوء، ولا إلى إعادة اللاجئين، إنها سياسة من نوع آخر لها أهداف أبعد، منها ما يرتبط بتسليف المزيد من الأوراق لصالح النظام السوري لبنانياً. فكما أن النظام لا يريد السماح لعبور البضائع اللبنانية عبر معبر نصيب، قبل تطبيع العلاقت بشكل رسمي معه، فهو يريد لملف اللاجئين أن لا يكون بوابة للتطبيع فقط، بل بوابة لدخوله إلى التأثير مجدداً على الساحة اللبنانية. التجارة باللاجئين ستكون مربحة للجميع، تماماً كما كان للنظام السوري هدف هو التجارة بالقضية الفلسطينية، أو بمزارع شبعا، التي تنازل عنها للبنان صورياً بينما يتمسك بها رسمياً. وكما يريد التسلل مجدداً إلى لبنان من بوابة ملف آخر هو ترسيم الحدود ليس البرية فقط هذه المرّة إنما البحرية أيضاً، خصوصاً بعد فتح باب التلزيمات النفطية في الشمال وتحديداً في الحدود البحرية غير المرسمة مع سوريا. وهذه بلا شك ستكون بعناية روسيا التي أوصلت رسائل تطمين للبنان، حول تسهيل النظام لعمليات الترسيم. ملف اللاجئين سيكون كملف ترسيم الحدود، ومزارع شبعا، وسيتحول إلى جزء من تسوية كبرى.