فيما يتخوف اللبنانيون من سوء الوضع الاقتصادي، ويرصد موظفو القطاع العام صدور الموازنة، لا يعكس الأداء أي قلق من ردود الفعل الشعبية تجاه الإجراءات التي قد تحملها القرارات الحكومة أو الأرقام المالية.

ويتسابق السياسيون لإعلان أرقامٍ مخيفة عن فضائح تتعلق برواتب كبار الموظفين في القطاع العام وبأبواب الهدر، فيما أقرت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة غلاء معيشة للمتعاقدين والأُجراء في مؤسسة المحفوظات الوطنية ومصلحة استثمار مرفأ طرابلس وللموظفين في مصلحة سكك الحديد.

والمفارقة فإن الحديث عن أبواب تبديد المال العام التي ساهمت بها القوى التي تتولى إدارة الدولة منذ تسعينات القرن الماضي إلى جانب الأطراف السياسية الأخرى، لم يفاجئ الشعب الذي يتداول أخبار فضائح المسؤولين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحافلة بتعليقات عن ارتكابات المسؤولين، رافضين خفض رواتب القطاع العام التي ينحصر المرتفع منها بنسبة لا تتجاوز 10% من عدد الموظفين.

ويقترح بعض الخبراء خفض عدد النواب إلى 108 (كما أقر اتفاق الطائف) لتوفير أربعة مليارات ليرة سنوياً. وكذلك خفض عدد الوزراء إلى 14 وزيراً لتوفير ثلاثة مليارات ليرة (مليوني دولار)، ووقف رواتب ومستحقات الرؤساء والنواب السابقين، ناهيك بـ47 مليار ليرة تُدفع كنفقات سرية للأجهزة الأمنية.

ويوضح النائب السابق مصطفى علوش لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الواقع هو تأكيد لإشكالية العمل السياسي في لبنان الذي لا يفرض ارتباطاً بمصالح الناس كما في باقي الدول. فالمظاهرات المطلبية بالكاد تجمع عشرة آلاف مواطن محتجّ، في حين يجمع خطاب زعيم أكثر من 200 ألف شخص من مؤيديه». ويعتبر أن «السبب هو تورط نسبة كبيرة من اللبنانيين بعلاقة قائمة على الانتفاع عبر الانخراط في الفساد بمستويات متفاوتة، تبدأ بالتهرب الضريبي والتحايل على القانون والتوظيف الذي لا يستند إلى الكفاءة. بالتالي جزء كبير من الفساد يشمل الناخبين المتواطئين مع المنطق السيئ لإدارة الدولة». ويرى علوش أن «السياسيين جزء من الكل في حلقة الفساد المفرغة، وتصريحاتهم التي تكشف مَواطن الهدر ونهب مقدرات الدولة في هذه المرحلة، تشير إلى أنهم غير واعين لما يقومون به، ويعتبرون أنهم يحفظون مصالح ناخبيهم وطوائفهم، وذلك لأن منطق الدولة قائم على تحالف وتقاسم مقدراتها».

أما الخبير الاقتصادي الدكتور أنطوان حداد فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «قانون الانتخاب هو سبب أساسي لعدم مساءلة الناس للطبقة السياسية، لارتكازه على الاستقطاب الطائفي والمذهبي الحاد وتحويل السياسة إلى تمثيل للهويات الثانوية على حساب الهوية الوطنية، ما أدى بالنسبة الكبيرة إلى المقاطعة الشعبية لصناديق الاقتراع».

ويضيف: «هناك آليات أخرى مباشرة ساهمت بالتجديد لهذه الطبقة السياسية والخوف من التغيير وعدم المساءلة، وأهمها الوضع الإقليمي وتحديداً مع تطييف الثورة السورية وابتداع التطرف الداعشي، ما نقل هواجس اللبنانيين من تحسين ظروفهم المعيشية إلى الهواجس المصيرية، بحيث فوّتوا على أنفسهم فرصة الإتيان بطبقة سياسية قادرة على حل مشكلاتهم، فتصرفوا كرعايا لا كمواطنين».

ويرى حداد أن «السياسيين غير خائفين من المنافسة لمعرفتهم بأنْ لا بدائل لهم ولا مبادرات أضمن وأفضل تتميز بخريطة طريق تتجاوز التنظير». لكنه يشير إلى «رصد هؤلاء المسؤولين أي تحرك منظم وإرسال جماعتهم لمراقبته، بالإضافة إلى تقاسمهم الأدوار لمنع تحول النقمة إلى تهديد فعلي لاستمرارهم في السلطة، بحيث يصرح مسؤول في الحزب عن توجه لخفض رواتب موظفي القطاع العام، لينبري مسؤول آخر في الحزب نفسه ويصرح ضده مظهراً الغيرة على مصالح هؤلاء الموظفين».