بعيدا عن بروباغندا النظام الإيراني فإن رئيس الجمهورية الإسلامية حسن روحاني قال كلمة السرّ للخروج من المأزق الذي لا مثيل له في تاريخ إيران الحديث. كشف الرجل عن الترياق لخلاص بلاده مستعدون للتفاوض مع أميركا فقط عندما ترفع الضغط وتعتذر.
 

‏في شهر مارس الماضي نُقل عن نائب حزب الله في مجلس النواب اللبناني، نواف الموسوي، أن إيران لن تسكت على محاولة خنقها في مايو المقبل، وأنها بصدد الردّ عسكريا ضد إسرائيل والولايات المتحدة لمواجهة رزمة العقوبات التي ترمي إلى تصفير صادرات طهران النفطية.

أهمية كلام الرجل أنه قيل بعد حضوره (كما ذكر) اجتماعا ضمّه مع آخرين، مع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، بما فُهم أن الكلام صادر عن زعيم الحزب، وموحى به من القيادة في إيران. والغريب أن الحزب سارع إلى نفي كلام نواف الموسوي، معتبرا أن حديث برلماني الحزب، أثناء عشاء خاص حضره بعض الصحافيين، قد فُهم خطأ.

غير أن مضمون الكلام الذي تمّ نفيه أعيدت إثارته على لسان نصرالله نفسه هذه المرة، من خلال تسريب جديد، قيل فيه إن أمين عام الحزب تحدث عن حرب إسرائيلية قادمة، و”أنني قد لا أكون بينكم”، موحيا أن إسرائيل قد تقوم بتصفيته وقيادات الصف الأول للحزب.

سارع الحزب إلى نفي تلك التسريبات، وأطل نصرالله شخصيا بعد أيام ليعلن أنه لا معطيات عن عزم إسرائيل على شنّ حرب قريبة ضد حزب الله.

في تبرير أمر العزوف الإسرائيلي يفسر نصرالله الأمر وفق قصائد رتيبة: إسرائيل لا تملك الإمكانات لذلك، والولايات المتحدة مهزومة في سوريا. مقابل ذلك ينشد قصائد من نوع آخر مفادها جاهزية “المقاومة” وانتصارها الدائم في كل مكان. وفي آليات التسريب ونفيه، ما يكشف عن قلق حقيقي وجدّي لدى قيادة الحزب من مآلات الضغوط التي تمارسها إسرائيل عسكريا ضد وجوده ووجود إيران في سوريا، وتلك التي تمارسها الولايات المتحدة سياسيا من خلال آلية العقوبات الخانقة (خصوصا في مايو) ضد إيران وحزب الله.

على أن حزب الله مضطر للمكابرة وعدم الاعتراف بالتداعيات الموجعة لعقوبات واشنطن.

بات النظام المصرفي اللبناني عصيّا على الشبكة المالية للحزب، وباتت تلك الشبكات ملاحقة في أميركا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا، كما بات الحزب بجناحيه، السياسي والعسكري، إرهابيا في عيون بريطانيا، كما هو في عيون الولايات المتحدة قبل ذلك.

على أن تلك المكابرة لا تواري مناشدة حسن نصرالله للمناصرين بتمويل الحزب، وللمتفرغين تحمّل الضغوط التي تخنق رواتبهم.

وفي أمر نفي نصرالله لكلام الموسوي حول الرد العسكري الإيراني على العقوبات، وفي نفيه وجود معطيات لقيام إسرائيل بالحرب، ما ينطوي على استبعاد لفكرة الحرب أساسا في مقاربة الموجة الموجعة التي تداهم طهران وروافدها في كل المنطقة.

لم تعد الحرب تحت مسمى “المقاومة” قابلة للتسويق لدى الجمهور الشيعي قبل ذلك المناصر تقليديا للحزب وطهران. رفع حزب الله لواء مكافحة الفساد في لبنان لعلمه أن ذلك الشعار يستهوي بيئته ولا تستهويه شعارات المقاومة و”رمي إسرائيل في البحر”، وهو يسعى لتركيز جهوده على التكتيكات السياسية في لبنان، مستنتجا بأنه خسر وإيران معركة سوريا لصالح روسيا، وأنه بصدد خسارة معركة السلاح الذي لا يحمي نصرالله وقادة الصف الأول، لصالح الانخراط داخل الدولة صونا لمصالحه في لبنان.

على أن خطاب التصعيد العسكري ينطلق هذه المرة وبشكل جدي ومحتمل من طهران.

مرشد الثورة علي خامنئي يَعِدُ أن عقوبات واشنطن “لن تبقى دون رد”، فيما جنرالاته يهددون ويكررون التهديد الممل بإغلاق مضيق هرمز. ويذهب خامنئي إلى استبدال قائد الحرس الثوري وتعيين شخصية (حسين سلامي) عرف عنها لسانها السليط في التهديد والتهويل أكثر من كفاءات عسكرية بالإمكان الركون إليها.

لن تستطيع إيران القيام بأي رد عسكري ضد عقوبات مايو الخانقة. لن تجرؤ على إغلاق مضيق هرمز. لن تخوض إيران حربا مكلفة وخاسرة للرد على عقوبات لا تكلف من يفرضها شيئا. وما استبعاد نصرالله لفكرة الحرب إلا وحي توحي به إيران حتى لو نفخ مرشدها برياح التهديد الذي لم يتوقف منذ ولادة الجمهورية الإسلامية في العام 1979.

لكن بعيدا عن بروباغندا النظام الإيراني فإن رئيس الجمهورية الإسلامية حسن روحاني قال كلمة السرّ للخروج من المأزق الذي لا مثيل له في تاريخ إيران الحديث. كشف الرجل عن الترياق لخلاص بلاده “مستعدون للتفاوض مع أميركا فقط عندما ترفع الضغط وتعتذر”. نعم إيران تطلب التفاوض. وستذهب طهران إلى طاولة المفاوضات دون أن يرفع هذا الضغط ودون أي اعتذار من قبل الولايات المتحدة. بات على إيران والإيرانيين الاستعداد لمرحلة مقبلة من المفاوضات.

وبغض النظر عن تصريحات المرشد وجنرالات الحرس، فإن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، يحضران العدّة اللازمة من الوعيد في الواجهات، والترتيب خلفها للعبور نحو تلك المفاوضات.

لا يأتي انصياع إيران إلى مبدأ التفاوض مما أعلنه روحاني فقط. بدا ذلك أيضا في الانفتاح العراقي على علاقات واسعة مع المملكة العربية السعودية. لم يكن رئيس الحكومة العراقي عادل عبدالمهدي لينطلق مع وفده العملاق باتجاه الرياض دون غض الطرف، وربما دفع، من إيران بهذا الاتجاه.

بدا لأي مراقب أن إيران تفاوض السعودية من خلال بغداد، وسهل على أي فطن في علم السياسة أن يستنتج أن الرياض نفسها تفتح أبوابها لبغداد التي ما زال في طهران من يعتبرها عاصمة للإمبراطورية الإيرانية.

بدا أيضا أن إيران تراقب تقهقرها في سوريا. حزب الله نفسه لم يعد يتحدث عن انتصاراته. الأضواء تسلط على هجمات إسرائيل المعلنة ضد مواقع تابعة للحزب وإيران، فيما يكثر الضجيج عن إشاعات حول هجمات غير معلنة (يرجح أنها أميركية) تشنها ضد تحركات عسكرية إيرانية شرق الفرات وبالقرب من الحدود التي يراد لها أن تكون ممرا إيرانيا يخترق العراق باتجاه طهران، علما أن هذه الإشاعات هي جزء من حرب نفسية لا شيء يمنع من انقلابها إلى حرب حقيقية.

بدا أيضا أن تقاطعا روسيا أميركيا يحاصر محاولة إيران لتكبيل نظام دمشق باتفاقات عسكرية اقتصادية تؤكد حضور إيران في مستقبل سوريا. وما الإعلان الروسي عن استئجار ميناء طرطوس إلا إعلان مضمر عن حرب نفوذ من موسكو نحو طهران.

لم تهزم إيران ولا يرادُ لها ذلك. الولايات المتحدة نفسها لا تريد سقوط النظام في طهران. لسان حال وزير الخارجية مايك بومبيو يكرر ما مفاده أن الهدف هو إقناع إيران بالتفاوض لضبط سياستها الخارجية المهددة للاستقرار في المنطقة، ومراجعة شكل ومضمون ومهام برنامجها النووي، كما للصواريخ الباليستية. بمعنى آخر بات ممنوعا على إيران تصدير ثورتها.

طهران نفسها تعرف ذلك وتدرك أن العالم لا يريد سقوط نظامها، وهي إذا ما نقلت يوما مسألة إغلاق مضيق هرمز من حيّز الكلام إلى حيّز الفعل، فإن إسقاط نظامها يصبح قرارا دوليا قد تسعى إليه روسيا والصين، قبل الولايات المتحدة.

قبل أيام قال حسن روحاني إن إيران تقبل التفاوض. لا يهم وعيده المشترط لذلك. وقبل أشهر نفى حزب الله تحليل نائبه نواف الموسوي حول الردّ الإيراني المزلزل.

طهران تبعث رسائلها: الصدام بعيد بعيد، والتفاوض وزمن الصفقات قريب قريب. المسألة مسألة وقت فقط، راقبوا من جديد قناة مسقط.