شكّلت التسوية الرئاسية محطة وطنية أساسية تقاطعت فيها قوى تمثيلية على عناوين محددة لا ترتقي إطلاقاً الى مرتبة التحالف السياسي، إنما تنحصر برباعيّة التبريد والاستقرار والانتظام والنأي، ولكن ما الذي يمنع القوى المعارضة للتسوية من تشكيل جبهة معارضة؟
 

تستهوي بعض القوى والشخصيات ممارسة المزايدة السياسية لا المعارضة الوطنية، فتحصر تركيزها في المزايدة على «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» من باب قبولهما بالتسوية والمساكنة مع «حزب الله»، متجاهلة انّ المساكنة بدأت منذ العام 2005، وانّ التسوية هي تحت سقف التوازن الذي نشأ مع خروج الجيش السوري من لبنان، بل حسنّت التسوية، خلافاً لوجهة النظر الأخرى، التوازن لمصلحة المشروع السيادي، وتكفي المقارنة بين نسخة «حزب الله» مع التسوية ونسخته قبل التسوية.

وتتجاهل وجهة النظر أعلاه انّ «القوات» لم تقبل بالتسوية، بل هي أساس التسوية بعد وصول «حزب الله» الى اقتناع بأنّ إخراج 14 آذار من السلطة غير ممكن، وبالتالي تسليمه بمبدأ المساكنة، وبعد وصول البلد الى حافة انهيار هيكل الدولة على أثر الفراغ الرئاسي وخطورة إعادة النظر في الدستور، وبعد وصول العلاقات المسيحية - المسيحية الى أدنى مستوياتها والانعكاس السلبي لهذا الوضع على الجانب الميثاقي، وبعد شعور الناس بالقرف من نزاع لن يُحسم داخلياً وأضراره لا تعد ولا تحصى معيشياً واقتصادياً ومالياً وإصلاحياً، وقد شكل الحراك الشعبي رسالة لجميع القوى السياسية انّ أولوية هؤلاء الناس لقمة عيشهم، وذلك على رغم فشله في تظهير نقمة الناس وترجمتها على أرض الواقع.

فلكلّ ما تقدّم من أسباب تحققت التسوية، خصوصاً انّ العودة الى الانقسام العمودي ممكنة في كل لحظة، فيما البلد والناس في حاجة لوقف إطلاق النار كعنوان لسياسة صمود وبقاء وعيش، فضلاً عن انّ التسوية قامت بين المكونات التمثيلية لبيئاتها، والانتخابات ثبتّت هذا الواقع ورسّخته، فيما القوى والشخصيات المعارضة للتسوية ظهرت في حجمها الحقيقي، وهذه إرادة الناس في نهاية المطاف، والانتخابات تمّت على أساس قانون انتخاب أعاد تصحيح الخلل التمثيلي المُتماد منذ العام 1990.

والهدف الأساس الذي وضعته 14 آذار عند انطلاقتها كان يتراوح بين إقناع «حزب الله» بتسليم سلاحه تحت شعار اللبننة، وبين الحفاظ على التوزان بين الدولة والدويلة وفق الشعار الذي حكم المرحلة السابقة، ولم يكن في حسابات 14 آذار يوماً انها تستطيع أن تلزم الحزب بتسليم سلاحه، وكل سعيها كان لـ«العبور الى الدولة»، هذا العبور الذي تحقق مع التسوية بأفضل وجوهه مقارنة مع المرحلة التي سبقتها، وذلك من خلال إعادة الاعتبار للدستور وعمل المؤسسات والانتظام والاستقرار والنأي بالنفس، وفي انتظار العبور الكامل نحو السيادة الناجزة والاستقلال التام.

وما يجدر التشديد عليه انّ ثلاثية «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي» شكّلت القاعدة الصلبة لحركة 14 آذار، وجاءت الانتخابات لتؤكد مشروعية هذه القوى التي واصلت السياسة نفسها التي اعتمدت منذ العام 2005، وهي التوازن وربط النزاع مع المشروع الآخر، ولن تترك السلطة ليس حبّاً بالسلطة، بل حرصاً على التوازن الوطني، وربط النزاع السيادي والدولتي، وتوسيع المساحة السيادية داخل الدولة وليس تقليصها والخروج منها، والسعي لتحقيق اختراقات بنيوية على المستوى الإصلاحي بما يمكِّن الناس من البقاء في أرضهم.

ومن حق أي طرف سياسي ان يكون لديه وجهة النظر التي يريد، ولكن شريطة ان يخرج من منطق الشعبوية والاتهامات الجاهزة والتخوين.

وبالتالي، من حقه الطبيعي ان يرفض التسوية ويعارضها وان يعلن سعيه لإسقاطها ديموقراطياً، وهذا ما لم يقم به حتى اليوم، فبقيت معارضته للتسوية ضمن حدود المزايدة على «القوات» و«المستقبل» ومن دون أن يسعى حتى الى تشكيل إطار جبهوي معارض. وإن دلّ هذا الأمر على شيء فعلى وجود حسابات سياسية تطغى على الرؤية الوطنية، وإلّا ما المبرر من وراء عدم تشكيل إطار معارض؟

فلو كانت هناك نية جدية لمواجهة جدية لكانت القوى الرافضة التسوية او المتضررة منها نجحت في تشكيل جبهة معارضة، وان تنتظم وتنظِّم صفوفها وتعلن برنامجها وتبدأ بالتحضير للانتخابات النيابية المقبلة تحت عنوان إسقاط التسوية القائمة.

فما الذي يحول دون تأسيس جبهة معارضة ببرنامج وطني واضح المعالم يصارح الناس بأهدافه المرجوّة، وان تتحول المعارضة حاجة داخلية لكل من لا يتفق مع أركان التسوية، ومحطة لكل زائر خارجي، ويكون تركيزها على العناوين الوطنية لا المطلبية فقط، وتضع في رأس سلّم أولوياتها إسقاط التسوية القائمة؟

وتأسيس معارضة من هذا النوع مسألة صحية، ولكن عدم الإقدام على تأسيسها سببه عدم القدرة ورفض المواجهة السياسية المنظمة مع «حزب الله» والاكتفاء بمواقف تذكيرية وتصفية الحسابات الداخلية، ويدرك أصحاب هذه المعارضة انّ معارضتهم غير مؤثرة وطنياً، فيما يبدو انّ المقصود ان تكون كذلك، لأنّ الهدف الفعلي هو «التَنقير» على «القوات» و«المستقبل» وليس مواجهة «حزب الله».

فلو لم تأتلِف «قرنة شهوان» لَما نجحت في إطلاق دينامية وطنية، ولكانت صرخة البطريرك في أيلول الشهير بقيت بلا ترجمة عملية في ظل معارضة يُغنّي فيها كلٌ على ليلاه، وبعد انقضاء نصف ولاية الرئيس عون تقريباً لا مؤشرات الى معارضة جدية كان يفترض أن تولد منذ 1 تشرين الثاني 2016، ولكن أكثر من حساب حال دون تأليفها وجعلها تتلطى بمعارضة «حزب الله» من أجل تصفية الحسابات مع «القوات» و«المستقبل»، حيث انّ مواجهتها الفعلية هي مع هذا الثنائي وليس مع الحزب، فيما العكس تماماً ما يجب ان يكون قائماً.

ويشكّل إنشاء معارضة وطنية بعنوان سياسي واضح وخريطة طريق واضحة مصلحة وطنية أكيدة، ولكن عدم الإقدام على خطوة من هذا النوع سببه إمّا الاقتناع بعدم وجود بيئة شعبية حاضنة وعابرة للطوائف، وإمّا الخشية من الفشل والانكشاف السياسي، وإمّا عدم الجدية، وإمّا رفض الدخول في مواجهة كسر عظم وإبقائها ضمن حدود «ضربة على الحافر وضربة على المسمار»، وإمّا لكل هذه الأسباب مجتمعة.

وتبقى مسألة أكيدة حتى إثبات العكس انّ الناس مع التسوية التي أمّنت الاستقرار والانتظام والنأي بالنفس والتوازن ونقلت الاهتمام الى هموم الناس الحياتية، ومن يريد إسقاط التسوية عليه ان يقدِّم البديل للناس، ويبدو انّ هذا البديل غير موجود، وهذا ما يفسّر الخوف والإنكفاء والتردد والاكتفاء بالمواقف التذكيرية والشكلية والتلَطّي خلفها بسبب عدم القدرة على تأسيس جبهة معارضة وببرنامج متكامل.