«فرحة» أهالي الكورة بقرار وزارة الداخلية وقف العمل في مقالع الإسمنت في منطقتهم قبل أكثر من شهر، «ما تمّت». فالأهالي عادوا واصطدموا بـ«مهلة الـ90 يوماً» التي منحها مجلس الوزراء للمقالع والكسارات للاستمرار بعملها. «المهل الإدارية» التي يستخدمها كلّ مجلس جديد ليست قانونية كما تعترف وزارة البيئة بدورها، والسكان يطالبون «بوقف العمل بالمهل والإيقاف الفوري للمقالع»
 
«التقيّد بمضمون استشارة هيئة التشريع والاسشارات عدد 334/2005 التي وصفت المهل الإدارية بمثابة القرارات الإدارية المعدومة الوجود»، هو ما نصت عليه مسودة وزارة البيئة لسياسة لإدارة المتكاملة لقطاع محافر الرمل والأتربة والمقالع والكسارات التي وافق عليها مجلس الوزراء أخيراً. الموافقة قُرنت بإعطاء مهلة 90 يوماً سمح خلالها للمقالع والكسارات حصراً بالعمل، باستثناء محافر الرمل والأتربة، مع «بعض» الشروط إلى حين انتهاء المهلة وتعديل المرسوم 8803/2002، ومنها «عدم استخدام المتفجرات» خلال المهلة، و«الامتثال للشروط البيئية المحددة في المرسوم وقراراته التطبيقية». هذه الشروط التي تنتهكها المقالع والكسارات في المناطق كافة، تتضّح نتائجها في الكورة، وتحديداً في كفرحزير وبدبهون، حيث يستمرّ الأهالي والمجتمع المدني والناشطون البيئيون في رفض توسّع مقالع شركتي الترابة «إسمنت السبع» (شركة الترابة الوطنية) و«هولسيم»، ويرفعون الصوت مطالبين بـ«تراجع المجلس عن المهل».
 
رئيس اتحاد بلديات الكورة المهندس كريم بو كريم يتمسّك بـ«المعارضة السلميّة للمهل غير القانونيّة». ولكن، ماذا عن دور البلديات في مراقبة عمل مقالع الشركات وإلزامها بدفع المبالغ المتوجّبة عليها لها بدل الإكتفاء بالمبالغ المقطوعة؟ يردّ بو كريم بأن «الدولة هي من تملك سلطة المحاسبة، وعليها إلزام الشركات بدفع متوجباتها لها وهي 1500 ليرة عن كل متر مكعب لإعادة تأهيل المناطق المتضرّرة». وعن رقابة الاتحاد والبلديات على أعمال الشركات والتهم الموجّهة إليها بدفن النفايات السامة في أراضي بدبهون وكفرحزير وتخزين كميات الكلينكر على الشاطئ، يؤكد بو كريم أن «الاتحاد يتحدّث عن ضرر الشركات منذ 80 سنة ونشدّد على مبدأ لا مقالع في الكورة وفق خطة تنظيم الأراضي، أما تخزين الكلينكر وسواه فهو من جملة المشاكل التي يجب حلّها بشكل جذريّ».
 
من جهته، يطالب رئيس لجنة كفرحزير البيئية جورج العيناتي بـ«إيقاف العمل فوراً في مقالع شركتي الإسمنت، لأن أراضي كفرحزير مصنّفة للبناء وبلديتها اتخذت قراراً بمنع الشركتين من الحفر في أراضيها». ويصرّ على ضرورة «إلزام أصحاب المقالع بدفع المبالغ المتراكمة وهي ألف ليرة عن كل متر مكعب لوزارة المالية و18 ألف ليرة رسوم بلدية عن كل متر حفر تتصاعد مع كل 8 أمتار إضافية»، هذه المبالغ، وفق عيناتي، «لم تدفع منذ عام 1933 إذ تعمد الشركات إلى دفع مبالغ مقطوعة للبلديات ما يعني أنها تهرّبت من دفع ملايين الدولارات». ويشدّد على أهمية «إلزام الشركتين بإزالة جبال الكلينكر المخزّن قرب الشاطئ ورفع النفايات السامة المدفونة، كما إلزامها باستيراد الكلينكر، واستبدال البتروكوك المصنّف كأرخص وأردأ أنواع الوقود النفطي الثقيل القاتل للحياة والبيئة بالغاز الطبيعي، وإبعاد أعمالها عن الأراضي الواقعة فوق المياه الجوفيّة»، وصولاً إلى «منعها من تصدير تراب الوطن، بل إلزامها بإنزال سعر طن الإسمنت في الداخل من نحو مئة دولار إلى 40 دولاراً، أسوة بالسعر الذي تبيعه به خارج لبنان».
 
الحل الوحيد لتقدير المساحات التي قضت عليها المقالع يكون من خلال مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش، وهو ما لحظته سياسة الإدارة المتكاملة لقطاع محافر الرمل والأتربة والمقالع والكسارات. ووفق الناشط في كفرحزير الياس شلهوب فإنه «لا يمكن إحصاء الأراضي والمساحات المتضرّرة من المعامل. الدمار هائل. الإصابات بالسرطان تطاول كلّ الأعمار، خصوصاً سرطان الرئة والمبولة وسواهما، وكذلك إصابات الربو. كلّ بيت فيه إصابة بالسرطان. الأمراض لدى الأطفال تفوق ثلاث مرات ونصف مرة الإصابات لدى الكبار. كأنه آتون نار نرمي به أطفالنا». التبعات الأخرى واضحة للعيان «الغبار فوق البيوت وداخلها، والأسوأ أن لدينا مدرسة رسمية داخل كفرحزير. انبعاثات الزئبق الذي يسافر إلى مسافات بعيدة هي الأكثر تأثيراً». وفق شلهوب «يمكن العودة إلى استيراد الكلينكر، كما كان يحصل سابقاً، بدلاً من تصنيعه. الشركات تتوسّع وتوسّع أفرانها ولا يبدو أن في نيتها تحجيم عملها أو إيقافه».
 
البروفيسور في علوم المواد في الجامعة اللبنانية رفيق قطان يفنّد ما تنتجه المعامل للمنطقة «الغبار المجهري (يتراوح حجمه بين 2.5 و10 ميكروميتر) الذي يعادل 1 على 50 من حجم حبة الرمل، ويتمتع بخاصيّة تثبيت المعدن الثقيل عليه، وهو يدخل إلى عمق الرئة والدم، ولا يتعلّق فقط بالمعامل بل بعوادم السيارات وشاحنات هذه الشركات». الانبعاثات من المقالع ومصانع الإسمنت «تساهم في تصاعد هذا النوع من الغبار حيث ينتج كل طنّ واحد من الإسمنت طناً من الغبار، والكميات المنتجة يومياً بالأطنان». استدراك أهالي الكورة لسكوتهم المزمن عن الجرائم المرتكبة بحقّهم، يعزوه قطّان إلى «تراكم وعي الناس، بات اليوم لديهم فكرة أفضل عن مساوئ هذه المعامل التي تظهر نتائجها بشكل خاص في الصيف. كما أن أهالي الكورة لم يعودوا مقتنعين بحجج الجدوى الاقتصادية لهذه الصناعات الملوِّثة والقاتلة للإنسان والبيئة».
 
هرباً من جحيم معامل الإسمنت في الكورة، «فرّت» نبيلة حدّادين قبل أشهر إلى كندا مصطحبة معها ابنتها هَيا (5 سنوات) بعدما شخّصت إصابتها بالربو قبل عامين.
 
ترتفع نسب الإصابة بالسرطان وأمراض الأجهزة العصبية والتنفسيّة بين جيران شركتي الاسمنت
 
«لم نكن نعلم ما الذي يحدث مع ابنتي، غافلتها أوّل نوبة ربو وهي بعمر الأشهر وكانت سيّئة جداً، استمرّت نوبات اختناقها حتى جرى تشخيص إصابتها بالربو وهي بعمر الـ3 سنوات» تقول الوالدة، مضيفةً «كانت إصابة هَيا بالغة، بدأ وضعها بالتحسّن في كندا، لكنّها مجبرة على تناول أدوية الوقاية والكورتيزون لأنهم لا يعرفون مدى سوء الوضع في لبنان، تحديداً في بترومين حيث تنتشر أندر أنواع السرطانات وأمراض الرئة والتشوهات الخلقية وأمراض الخصوبة». تنهي نبيلة اتصالها بـ«الأخبار» قائلة «أتمنى أن أرى ابنتي كبيرة ومتعافية ووجودنا في الكورة يقلّل احتمال نجاتها». العودة «إلى الكورة الخضراء كما نعرفها» هو حلم نبيلة، لكنّ «إمعان معامل الإسمنت عن سابق إصرار وترصّد بقتل الناس يمنعنا من ذلك». وبالنسبة للطبيب وليد عازار فإن «الشركة التي تأسست أيام الانتداب الفرنسي (هولسيم) برأس مال أجنبي مشبوه استغلّت العمال وكانت فوق القانون»، ويضيف «الضرر اللاحق بالسكان أكبر من فوائد وجودها، ومن الناحية الوقائية يفترض بالمعامل أن تقوم على الجهة الغربية وليس في ممرّ الهواء، وبالقرب من المنازل. ترتفع نسب الإصابة بالسرطان والأمراض المزمنة وأمراض الأجهزة العصبية والهضمية والتنفسيّة، وكذلك الحساسيّة والصداع الشائعة جداً... ناهيك عن تأثيرها على الشجر المثمر».
 
عضو بلدية كفرحزير يعقوب وهبة يشرح في اتصال مع «الأخبار» أن «البلدية أوقفت أعمال الحفر للشركتين ودخلت الوساطات لإعادتها ثم أعيد توقيفها، لكن لا يبدو أن رئاسة البلدية مستعدّة لرفع شكوى بحق الشركات». طلب الترخيص في المجلس الوطني للمقالع يبدأ من البلدية وعليه يقول وهبة «لن نوافق إلاّ إذا جرى الموضوع بغياب عدد من الأعضاء». ويؤكد أن الشركتين «عاملين سواتر وبوابات تمنع الناس من الدخول وكأنهم يخفون جريمة. طلبنا مؤازرة من المحافظ للكشف على المنطقة ولم يرسل لنا. لديهم مسلحون، كيف ندخل؟». ويعترف بأن أهالي المنطقة في بداية إنشاء الشركتين «فكروها نعمة، لاحقاً تطور وعي الناس لحالات الموت الكثيرة التي تحدث وعرفوا من هو مسبّبها».
(إيلدا غضين)