ينكسر سيف علي بن أبي طالب في معركة أُحُد، وتضيق الدائرة على المسلمين، فيهرب معظمهم من القتال، بينما يتحرّك القرشيّون لقتل نبي الله.
 
عندها يعطي الرسولُ لابن عمه سيفَه المشهور، المسمّى بذي الفقار، فيشهره ويجندل به شجعان قريش وصناديدها، ويردّهم عن الرسول خائبين مدحورين، ويتردّد في السماء قول جبريل "لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ".
 
بتلك الطريقة الملحميّة الإعجازيّة، تمّ تقديم سيف ذي الفقار إلى العقل الشيعي الجمعي، وشيئاً فشيئاً، تطوّرت رمزية هذا السيف ودلالته، لتحقّق حضوراً مهمّاً على الصعيدين السياسي والفكري، عند مختلف الفرق الشيعيّة.
 
كيف نظرت المصادر السنيّة والشيعيّة لذي الفقار؟
اختلفت الروايات التاريخيّة بخصوص تعيين أصل سيف ذي الفقار، والظروف التي وصل فيها إلى يد عليّ بن أبي طالب.
 
إذا ما رجعنا للكتابات السنّيّة، لوجدنا أن الكثير منها قد ذكر بعض المعلومات عن هذا السيف، ومن ذلك" تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبري، و"فضائل الصحابة" لابن حنبل. بحسب تلك المصادر، فإن ذا الفقار كان سيفاً غنمه الرسول في غزوة بدر 2ه، ثم أهداه لعليّ بن أبي طالب في غزوة أحد، لما انهزم معظم المسلمين وتركوا الرسول وحيداً أمام المشركين، عندها أعطى الرسول سيفه لعليّ، الذي تصدّى للكفار وأبعدهم عن الرسول بعدما قتل وجرح الكثير منهم.
 
بعض الروايات تذكر أن علياً لما قام بذلك، فأن جبريل قد نادى من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار... ولا فتى إلا علي.
 
وعلى الرغم من شهرة تلك الرواية، إلا أن الكثير من علماء أهل السنّة والجماعة قد اتفقوا على تضعيفها، ومنهم على سبيل المثال كلّ من عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه" الموضوعات"، وابن كثير في كتابه" البداية والنهاية".
من الملاحظ أن تلك المصادر تذكر روايات أخرى أقلّ شهرة، ورد فيها أن الرسول قد أهدى السيف إلى عليّ يوم غزوة الأحزاب، وتحديداً عندما قام عليّ لمبارزة عمرو بن ود العامري القرشي، والذي كان معروفاً كواحدٍ من أشجع فرسان العرب.
 
على الجهة المقابلة، إذا ما تطرّقنا للروايات الشيعيّة التي تحدّثت عن سيف ذي الفقار، لوجدناها في أغلبها تتجه لإضفاء الطابع الخوارقي والإعجازي على هذا السيف.
 
في بعض روايات كتاب" بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي، ورد أن هذا السيف كان لنبي الله آدم، وأنه كان مصنوعاً من أوراق إحدى الأشجار في الجنّة، فلما نزل آدم إلى الأرض، أخذ معه السيف وحارب به أعداءه من الجنِّ والشياطين، وانتقلت ملكيّة هذا السيف بعد آدم في سلسلة الأنبياء والرسل، حتى وصل يد النبي محمد، فأهداه لابن عمّه عليّ بن أبي طالب، ويُحكى أنه كان مكتوباً على نصل هذا السيف "لا يزال أنبيائي يحاربون به نبي بعد نبي وصديق بعد صديق حتى يرثه أمير المؤمنين فيحارب به عن النبي الأمي"٠
 
المجلسي أكّد على نداء جبريل مقولته المشهورة في غزوة أحد، متبعاً في ذلك التواتر الشيعي عبر القرون، غير ملتفت إلى تضعيفات أهل السنّة والجماعة لتلك الرواية.
 
وبحسب ما يذكر ابن شهر آشوب المازندراني، في كتابه" مناقب آل أبي طالب"، فأن الإمام الثامن علي الرضا قد فسّر لبعض أتباعه وشيعته، سبب خصوصيّة هذا السيف تحديداً، عندما ذكر لهم " أن جبريل قد نزل به من السماء".
 
ومما قيل في شأن ذي الفقار، أن جبريل قد كسر صنماً عظيماً باليمن، وصنع من مادته هذا السيف، كما قيل إنه كان من بين الهدايا العظيمة التي أرسلتها بلقيس ملكة سبأ إلى الملك سليمان في فلسطين.
 
وفي السياق نفسه، فأن بعض الكتب قد ردّت الإعجاز في هذا السيف إلى الرسول نفسه، حيث روي أن الرسول قد أخذ سعفاً من سعاف النخيل، ثم نفث فيه، فتحول السعف في يده إلى سيف ذي الفقار.
 
أما فيما يخصّ تسمية ذي الفقار، فأن بعض المصادر السنّيّة قد فسّرته ببعض الحفر التي كانت موجودة على السيف، والتي أخذ منها اسمه، في الوقت الذي نقلت فيه الروايات الشيعيّة المتقدّمة عن بعض الأئمّة تفسيرهم لاسم ذي الفقار بطرقٍ مختلفةٍ، تتماشى في بعض الأحيان مع التوصيف الشكلي له، ومن ذلك ما نُسب إلى الإمام جعفر الصادق من قوله "إنما سُمّي سيف أمير المؤمنين عليه السلام ذو الفقار لأنه كان في وسطه خطة في طوله مشبّهة بفقار الظهر"، وفي أحيان أخرى، تسير أقوال الأئمة في ركاب الدلالة المعنويّة، مثل ما حُكي عن الصادق أيضاً من قوله "إنما سُمّي ذو الفقار لأنه ما ضرب به أمير المؤمنين أحداً إلا افتقر في الدنيا من الحياة وفي الأخرة من الجنة".
 
الرمزيّة السياسيّة
حظي ذو الفقار برمزيّة سياسيّة مهمّة ومعتبرة عند الساسة المسلمين عموماً، وعند الشيعة منهم على وجه الخصوص.معظم الفرق الشيعيّة حرصت على ادّعاء امتلاك السيف، واعتبرت أن امتلاكه يعبّر عن أحقّيتهم في الخلافة والحكم وتولّي منصب الإمامة بعد الرسول.
 
هذا الاعتقاد انتشر بسبب كثرة الروايات التي تحدّثت عن قيام عليّ بن أبي طالب، باستخدام هذا السيف تحديداً، في حروبه ومعاركه ضدّ الخارجين عليه زمن خلافته، حيث ورد أنه قد شهره وقاتل به في معركتي الجمل وصفّين، وأنه جندل به الكثير من الأبطال والشجعان في صفوف أعدائه.
 
في عام 145ه/ 762م، عاد ذو الفقار مرّة أخرى إلى الأضواء، عندما شهره محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والمعروف بمحمد النفس الزكيّة، وذلك إبّان ثورته على العبّاسيّين.ذو الفقار كان مصدراً للإلهام عند العلويّين في تلك الفترة، وكان سبباً في الزخم الذي حظيت به ثورة النفس الزكيّة في أوّل أمرها.سرعان ما تغيّرت الأمور بعدما أُصيب النفس الزكية بسهمٍ في أرض المعركة، حيث دفع عندها السيف إلى أحد التجّار الذي كان مديناً له بأربعمائة دينار، وأخبره أن يسلّمه لأيّ رجل من العلويّين وأنه وقتها سيستردّ أمواله منه.
 
بحسب ما يذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، فأن التاجر باع السيف لجعفر بن سليمان، والذي قام بدوره بإهدائه للخليفة الهادي، فوضعه في خزانته، حتى إذا ما توفّي وخلّفه أخوه هارون الرشيد، فأنه تمنطق به وتفاخر به أمام الناس.وقد حكى ابن خلكان، أن الأصمعي قد شاهد هذا السيف مع الرشيد بطوس، وأنه قد أمسكه بيده، وأعجب به، ووصفه بكونه قد احتوى على "ثماني عشرة فقارة"٠وقد بقي هذا السيف مثاراً للتفاخر والزهو عند العبّاسيّين، حيث ورد أنه كان في معيّة كل من المعتزّ بن المتوكل، والمهتدي بالله، وقيل أن البحتري قد أنشد في وصفه بعض أبيات الشعر، وذلك بحسب ما يذكر أحمد تيمور في كتابه الآثار النبويّة.وإذا ما انتقلنا إلى الفرقة الشيعيّة الاسماعيليّة، سنجد أن هناك الكثير من الأقوال التي تذكر أن هذا السيف كان موجوداً عند بعض خلفائها، ومن أبرزهم الخليفة المستنصر بالله.بحسب ما يذكر أحمد تيمور في كتابه سابق الذكر، فأنه من المحتمل أن بعض تجّار العراق قد ابتاعوا هذا السيف من العبّاسيّين، وباعوه فيما بعد للخلفاء الفاطميّين في القاهرة، ولكن من الصعب تصديق هذا الرأي، لأن خلفاء بني العبّاس لم يكونوا ليفرّطوا أبداً فيه، بكلّ ما يحمل من دلالة سياسيّة، بحيث يصل إلى يد أعدائهم الذين طالما نازعوهم على الحكم والسلطة.بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"،
 
فإن ذا الفقار تعرّض للنهب والسرقة، مع مجموعة أخرى من التحف والذخائر المحفوظة في الخزائن الفاطميّة، وذلك إبّان فترة الشدّة المستنصريّة (457- 464ه)، لما عجز المستنصر عن توفير الأموال في تلك الفترة العصيبة، وتأخّر صرف رواتب وأعطيات الجند الأتراك في الجيش الفاطمي، اقتحم قادتهم قصور الخلافة، ونهبوا ما بها من ثروات، وكان سيف ذي الفقار إحدى القطع المنهوبة والتي ضاعت ولم يعرف مصيرها بعد ذلك.أما بالنسبة لفرقة الشيعة الإماميّة الاثني عشرية، فإننا نستطيع أن نجد لذي الفقار حضوراً سياسيّاً مميّزاً بها أيضاً.في 201هـ/ 817م، أظهر الإمام علي الرضا هذا السيف عندما تمّ تنصيبه وليّاً لعهد الخليفة العباسي المأمون، وكان وقتها يردّد أن هذا السيف من ميراث النبوّة التي يجب على الإمام أن يمتلكها، وأنه -أي السيف- دليل من أدلّة الإمامة الصادقة،
 
وذلك بحسب ما يذكر الشيخ الصدوق في كتابه "الأمالي"٠هذا الحضور العظيم لذي الفقار استمرّ موجوداً على مدار السنين والعصور، حيث اعتقدت الشيعة الاثنا عشرية أن السيف في معيّة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، وأنه سيخرج شاهراً إيّاه في آخر الزمان، حينما يأتي موعد تحقيق العدالة المطلقة على الأرض.
 
بين خنجر أبي لؤلؤة وسيف ذي الفقار
معظم المصادر المتقدّمة لم تعط أوصافاً دقيقة لسيف ذي الفقار، بل قد اكتفت بالتأكيد على وجود بعض الحفر عليه، والتي تشبه فقرات العظام الموجودة في ظهر الإنسان.
 
ولكن ومع حلول القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، ظهرت بعض الأوصاف المستجدّة لذي الفقار، منها ما ذكره ابن شهر آشوب المازندراني، من أن هذا السيف كان ذا شعبتين، وأنه كان يشبه في ذلك عصا نبي الله موسى عليه السلام.
 
هذا القول لم يلق قبولاً كبيراً في أوساط الشيعة الإماميّة، فلم يتناقله علماء الشيعة التابعين لابن شهر آشوب، ولم يوردوه في كتاباتهم ومؤلّفاتهم، ولكن ومع حلول القرن الحادي عشر من الهجرة/ السابع عشر الميلادي، استطاع هذا القول أن يحقّق شيوعاً كبيراً وواسعاً عند الشيعة الإيرانيّين تحديداً، بدليل ما ذكره محمد باقر المجلسي من قوله إنه من المشهور عند الشيعة أن سيف ذي الفقار كان ذا شعبتين.
 
ذلك التحوّل الكبير في وصف سيف ذي الفقار، يمكن تبريره وتفسيره بالحضور المكثّف لشخصيّة أبي لؤلؤة، قاتل عمر بن الخطاب، في العصر الصفوي على وجه الخصوص، وأغلب الظن أن العقل الشيعي الذي اهتمّ باستحضار قصّة أبي لؤلؤة في تلك الفترة، قد أخذ صورة خنجر أبي لؤلؤة، والذي اتفقت أغلب المصادر التاريخيّة على كونه ذا نصلين وأن مقبضه كان في وسطه، وأسقطها على سيف ذي الفقار، فأصبح بعدها السيف ذا شعبتين أو نصلين، وصار يُرسم بهذا الشكل في جميع الرسومات الشيعيّة، وما يدعم ذلك الرأي، أن بعض الروايات الشيعيّة، التي وردت في كتاب "كامل البهائي" لعماد الدين الطبري، قد ذكرت أن أبا لؤلؤة قد قتل عمر بن الخطاب بسيفٍ، صنعه على غرار سيف ذي الفقار.
 
الدمج بين خنجر أبي لؤلؤة وسيف ذي الفقار، وقع في سياق المخيال المذهبي الشيعي الذي اهتمّ بإبراز مظلومية آل البيت، والتركيز على الكيفيّة التي انتقموا بها من أعدائهم، ووضعها في بؤرة الاهتمام، ويمكن تفسير شيوع ذلك الخلط والدمج في العصر الصفوي، بما لاحظه كولن تيرنر في كتابه "التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي" من أن كتابات المجلسي وغيره من علماء الشيعة الذين حظوا بدعم سلاطين الصفويين، قد كتبوا قدراً كبيراً من مؤلّفاتهم باللغة الفارسيّة، وبأسلوب تقبّله شطرٌ كبيرٌ من الفرس، ما سهّل عملية اعتناقهم للأفكار والروايات الواردة فيه.