الفرصة التاريخية التي تمثلها الانتخابات القادمة يمكن أن تعيد لثورة الياسمين صدق صرختها، ويمكن في المقابل أن تؤدي إلى وأد الثورة نهائيا.
 

رغم الإحباط الشعبي الذي يسود الشارع التونسي بسبب تعثر العملية السياسية وتناحر الأحزاب، بعضها مع البعض الآخر وداخل كواليسها، وضبابية المشاريع السياسية لتلك الأحزاب تبقى التجربة التونسية نموذجا يمكن النظر إليه بتقدير على مستوى التحول الديمقراطي.

بالتأكيد هناك هامش من الحذر، سببه غياب البوصلة. فالأحزاب المدنية التي تأسس معظمها بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لا تملك قاعدة شعبية، ولذلك فإنها ترتجل برامج مؤقتة لا تصلح للتسويق وليس لها أي تأثير إيجابي على مستوى تحسين الأوضاع المعيشية. وهو الهدف الرئيس التي قامت من أجله ثورة الياسمين.

تكاد الصلة أن تكون منقطعة بين تلك الأحزاب وطبقات الشعب التي كانت ولا تزال تحلم بأن تحدث الثورة تغييرا ملموسا في حياتها. فهي لم تثر من أجل أن تستبدل نظاما بنظام أو حاكما بحاكم، بل ثارت من أجل أن تجري الأمور لصالحها حين تتمكن من أن تضع الدولة في مكانها الصحيح، كونها الجهة المكلفة بتصريف شؤونها بالطريقة التي ترسخ مبدأ المساواة في ظل القانون الذي لا يسمح لأحد بتجاوزه.

أما أن يتحول الشعب إلى جمهرة من المتفرجين على مسرحية اسمها “اللعبة السياسية” حيث تتنافس الأحزاب في ما بينها على كراسي الحكم مستعينة بوسائل دعايتها المضللة، فإن ذلك يعد خيانة لأهم الشروط التي تضمن اعتراف الشعب بشرعية وجود تلك الأحزاب. وهو ما يشير إلى إمكانية تخلي الشعب عن جميع تلك الأحزاب والعزوف عن دعمها انتخابيا.

ذلك ما يمكن أن يقع في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وهو ما يجب أن تحتاط له الأحزاب التي تنوي التقدم بمرشحيها.

فالشعب الذي لم تتعرف عليه جيدا يمكن أن يطيح بها بيسر وهو قادر على القيام بذلك. غير أن ما يجب أن يكون معلوما للجميع أن حركة النهضة ستكون المستفيد الوحيد من تلك الخطوة التي سيقدم عليها الشعب.

ولكن لماذا حركة النهضة؟

أولا لأنها لا تزال تملك قاعدة شعبية عريضة، يمكن أن تؤهلها في حالة تخلي الشعب عن الأحزاب المدنية من الوصول ثانية إلى السلطة.

وثانيا لأنها تملك خطابا شعبويا فشلت الأحزاب الأخرى في تفكيك أباطيله وفضح ما ينطوي عليه من تضليل للفقراء والبسطاء من الناس.

وثالثا لأنها الحزب الوحيد الذي لم يتعرض للانشقاق والانقسام، وظل متماسكا بالرغم من الهزائم التي مني بها عبر السنوات الماضية.

تظل تجربة التحول الديمقراطي في تونس استثناء مقارنة بالتجارب التي عاشتها دول عربية مرت بها رياح الربيع العربي.

غير أن ذلك الاستثناء لا يزال هشا وقابلا للانكسار إذا ما نجحت حركة النهضة - وهي قوة ظلامية- في استثمار حالة الوهن والتشظي والإنهاك التي تعيشها الأحزاب المدنية لصالحها واستغفال الشعب عن طريق برامج تعتمد أصلا على المراوغة والخداع والوعد بجنات تقع في عالم الغيب.

إن الفرصة التاريخية التي تمثلها الانتخابات القادمة يمكن أن تعيد لثورة الياسمين صدق صرختها، ويمكن في المقابل أن تؤدي إلى وأد الثورة نهائيا. ذلك لأن الإسلاميين جاهزون للقيام بثورتهم المضادة. وهي ثورة ستؤدي بتونس إلى أن تخوض في بركة الفشل التي خاضت فيها ثورات “الربيع العربي” في اليمن وسوريا وليبيا.

ما لم تتمكن الأحزاب المدنية من ضبط أحوالها والتقدم ببرامج عمل وإصلاح فإنها لن تخسر فرصتها في إنقاذ تونس فحسب، بل وأيضا ستكون مسؤولة عن فشل الثورة التونسية التي وهبت العالم العربي درسا في اللاعنف.

بالنسبة للكثيرين فإن وصول الثورة التونسية إلى أهدافها الحقيقية يعد مكسبا تاريخيا يمكن من خلاله الحكم على الإنسان العربي من جهة تمكنه من لغة العصر الحديث. وهو ما يعني أن على الأحزاب المدنية التونسية أن تخرج من دائرة عثراتها الضيقة لترى مسؤوليتها في حجمها الحقيقي.