الاجتماع البرلماني ببغداد مثل التفاتة ذكية لكسر طوق العزلة، وبين إلى أي مدى كانت استجابة العرب قوية لإخوتهم في العراق، وأثبت أن عهد الهجوم على العرب قد انتهى.
 

خطوتان عراقيتان دبلوماسيتان مهمتان حصلتا خلال ثلاثة أيام الأيام الماضية. الأولى زيارة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي للمملكة العربية السعودية وعودته بثلاث عشرة اتفاقية تجارية مهمة لصالح العراق وتطلعات جدّية إلى تحول إيجابي للعلاقات بين البلدين الشقيقين. والحدث الثاني انعقاد اجتماع رؤساء برلمانات الدول العربية المحيطة بالعراق إلى جانب الجارتين تركيا وإيران. هذا الاجتماع لا ينحصر هدفه في إطار نشاط العلاقات العامة لرئيس مجلس النواب العراقي، وإنما يوضع في إطار الإيمان بحاجة العراق إلى محيطه العربي ضمن هندسة سياسية ثلاثية منسّقة ما بين رئاسة الجمهورية ممثلة بالرئيس برهم صالح، ورئاسة الوزراء، عادل عبدالمهدي، ورئاسة مجلس النواب محمد الحلبوسي.

ويبدو أن النشاطات العربية لمحمد الحلبوسي لا تعجب البعض من الموالين لطهران داخل البرلمان رغم أن زيارته الخارجية الأولى بعد توليه المنصب كانت لإيران، وهو يواجه حملة سرّية من بعض الكتل الشيعية تستهدف إقصاءه من مسؤوليته، لأنه- وفق ما ترى- أخذ مجلس النواب إلى دروب لا تدخل في اختصاصاته، وكأن المؤسسة التشريعية العليا في البلد وضلع الديمقراطية الأول صممت على مقاسات هذه الكتلة السياسية أو تلك لتصبح ليست ذات جدوى إن خرجت على مشاريعها. وهذه الأصوات لا علاقة لها بمصالح العراق العليا وحاجته الاستراتيجية إلى فتح الأبواب التي يتنفس من خلالها ويستعيد البعض من موقعه الاستراتيجي في المنطقة بعد تجاوز مشكلاته التي خلفتها إمبراطورية الفساد وتاجها الفاسدون السياسيون.

الاجتماع البرلماني ببغداد السبت الماضي مثل التفاتة دبلوماسية ذكية ومحرّكة لكسر طوق العزلة، وبينت إلى أي مدى كانت استجابة العرب قوّية لإخوتهم في العراق، وأثبتت أن عهد التعامل العاطفي والتحسس من موجات التشكيك والهجوم على العرب قد انتهى، وأن لا خسائر معنوية أو سياسية حين يكون الهدف مداواة الأشقاء العراقيين من دون انحياز مذهبي أو طائفي بعد أن أصبحت حال جميع طوائف العراق متقاربة المستويات في الأضرار.

هذه الخطوة البرلمانية وغيرها من النشاطات الحكومية الجديدة تبعث برسالة عربية إيجابية إلى الشعب العراقي وتطوق التيار الانعزالي داخله. فقد حضر رئيس مجلس الشورى السعودي ورؤساء برلمانات الكويت والأردن وسوريا وتركيا، ما عدا إيران التي أوفدت عضوا برلمانيا ليخاطب البرلمانيين العرب في كلمته مدافعا عن “الحرس الثوري” الذي صنفته الولايات المتحدة أخيرا منظمة إرهابية، محاولا توجيه رسالة للعراقيين بأن هذا الحرس “الإرهابي” هو الذي حررهم من تنظيم داعش، ولهذا فعليهم عدم الاستجابة للقرار الأميركي.

ومن الطريف أن انزعاج بعض السياسيين العراقيين الشيعة من حضور وفود عربية لبغداد قد وصل درجة كبيرة من السذاجة، حيث عقب أحد البرلمانيين على ورود اسم رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي خطأ في كلمة رئيس مجلس الشورى السعودي باسم عادل عبدالهادي، وراح يؤوّل ذلك بخلفيات مذهبية لا يستحسن ذكرها بالنص غرضها التشكيك بالسعودية، أو محاولة خلط الأوراق وإعطاء العراق أدوارا لا يتحملها في المرحلة الراهنة، مثل دعوة أحد البرلمانيين إلى قيام حكومته بالوساطة ما بين إيران والسعودية.

كان البيان الذي صدر عن الاجتماع دبلوماسيا يدعو إلى دعم العراق ويعتبر أن استقراره ضروري لاستقرار المنطقة، وأن الدول المحيطة بالعراق تدعم عملية البناء والإعمار والتنمية وتشجيع فرص الاستثمار فيه بمختلف المجالات التعليمية والصحية والصناعية وتكنولوجيا المعلومات والثقافة وحركة التجارة والمال والمناطق الحرة ومرافق الحياة الأخرى.

هذه الخطوة البرلمانية رغم شكليتها لكنها تترك انطباعا نفسيا إيجابيا عند أهل العراق في إعادة مزاجهم العام إلى سابق عهده قبل الفيضان التحريضي الطائفي، إذا ما ارتبطت بخطوات جادة من قبل حكومة عبدالمهدي، لا أن يتم تسويفها داخل البيروقراطية الحكومية واندفاع بعض جهات الفساد لكي تستثمر في المساحات الاستثمارية العربية الجديدة بعد امتلاء البطون من المال العراقي.

كما تقع على عبدالمهدي مسؤوليات سياسية وثقافية يعرفها جيدا، وتتعلق بالمنهج الإعلامي والتثقيفي لبعض الأحزاب الموالية لإيران والعمل على إخماد جذوة نعرات الكراهية والثأر التي تعج بها وسائل إعلام هذه الأحزاب وفضائياتها، ما يجعل الخطوات الدبلوماسية للانفتاح العربي محفوظة داخل أدراج رئيس الحكومة الذي تقع عليه في هذه الأيام مسؤوليات كبيرة وتاريخية لإنقاذ البلد مما وصل إليه، ولديه مساحات واسعة للتحرك والاعتماد على كفاءات عراقية وخبرات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية قادرة على خدمة هذا التوجه إن كان جادا، وهؤلاء كثر داخل وخارج العراق لا يريدون مناصب أو مواقع حكومية بل فقط خدمة وطنهم.

لا شك أن إيران غير مرتاحة لخطوة رئيس مجلس النواب العراقي ولا لزيارة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي للسعودية ولا لأي خطوة في الانفتاح العربي، لأنها تأكل من جرفها وتفتح بعض المتاريس التي أبقتها طهران مغلقة حول عنق العراق، وهي تعتقد أن كرة الثلج إذا ما تدحرجت بعيدا عن شرق العراق سيصعب في المرحلة المقبلة إيقافها، وأن ولاء الميليشيات المسلحة وأنصار الحرس الثوري الإيراني واستعراضاتهم في الإعلام والشوارع والمدن لن يعّطل تمزيق شباك العنكبوت الواهنة مهما تفنن قادة نظام طهران في الإيحاء بعظمتهم.

ألم تسمعوا كيف عقبوا على تصنيف واشنطن للحرس الثوري بأنه منظمة إرهابية وقالوا إنه “إهانة لإيران” وكأنه إهانة للإمبراطورية الجديدة، أو عندما لم يعجبهم أن يجلس رئيس برلمانهم على طاولة بغداد العربية أمام رئيس مجلس الشورى السعودي ورؤساء البرلمانات العربية وبضيافة رئيس البرلمان العراقي فأرسلوا عضوا ومسؤولا عن الأمن القومي الإيراني في برلمانهم. هؤلاء لديهم عقدة العرب واعتقدوا أن هيمنتهم السياسية على بعض مسؤولي الأحزاب كافية لتحويل العراق وتخليه عن عروبته، لكن الواقع الصعب الذي مرّ به شعب العراق في ظل هيمنتهم هو القاعدة الرصينة لعودة هذا البلد إلى ظهيره العربي.