لم تكن "لطشة" الرئيس ميشال عون المباشرة تجاه الرئيس سعد الحريري، من بكركي، مجرّد زلّة لسان في لحظة غضب. على ما يبدو، القصة أكبر من ذلك، بالنسبة للمطلعين على خبايا الأمور وتفاصيلها. وينقل هؤلاء أجواء سلبية عن رئيس الجمهورية تجاه الحريري. إذ يبدي عتباً كبيراً عليه بفعل تصرفاته وأدائه. ويرى فيه متباطئاً بشكل متعمّد عن القيام ببعض الخطوات الجدية والأساسية، على طريق إنجاز الموازنة. ويعتبر رئيس الجمهورية، حسب ما ينقل المتابعون، أن الحريري لا يبادر سريعاً لإنجاز الموازنة، لذلك لجأ إلى توجيه الكلام القاسي إليه.

إشكال عائلي أولاً

حمّل عون مسؤولية التأخر في إقرار الموازنة إلى الحريري، كما حمّله مسؤولية عدم إيجاد حلول ناجعة للأزمة المالية والاقتصادية وتداعياتها المرتقبة. مع العلم، أن الإشكال الأساسي في التوافق على حلّ ملائم، هو داخل البيت الواحد، أي داخل التيار الوطني الحرّ، بل وحتى داخل قصر بعبدا بالذات. فالوزير جبران باسيل هو أول من أطلق موقفاً بوجوب الاقتطاع من رواتب الموظفين. وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فإن باسيل دعم خيار الحريري في الاقتطاع من الرواتب، وشجّعه على ذلك، متعهداً إقناع رئيس الجمهورية للسير بهذا الخيار. فاندفع الحريري بهذه الوجهة، ليجد أن الموضوع غير قابل للتسويق لدى عون. وفي المقابل، فإن الردود على باسيل جاءت من داخل البيت، حين ردّ عليه النائب شامل روكز، رافضاً المساس برواتب الموظفين وتعويضات العسكريين أو بالتدبير رقم 3. والأمر نفسه انسحب على موقف وزير الدفاع الياس بو صعب، بما يخص الموازنة والعسكر.

لكن عون تجاهل الإشكال الداخلي، وحمّل الحريري المسؤولية. وموقفه هذا سينطوي على أبعاد مؤثرة حيال مجمل الملفات المالية والاقتصادية، خصوصاً بعد أن فوجئ الحريري وباسيل معاً بتناغم المواقف بين حزب الله وحركة أمل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي.. الرافضة للمساس برواتب الموظفين. هكذا، سرعان ما استند باسيل على موقف عون، للتنصل من موقفه السابق تاركاً الحريري وحده في الواجهة.

تصفية الحريرية

بموازاة موقفه هذا، أعلن عون موقفاً آخر، يشير فيه إلى التوجه بعد إقرار الموازنة، لإطلاق خطة اقتصادية جديدة، هي عينها التي أقرت في بعبدا قبل فترة، وجوهرها يرتكز على خطة ماكينزي. ما يعني أن عون يريد إلزام الحريري بهذه الخطة، والضغط عليه للسير فيها، مع العلم أن هذا النوع من الخطط لا يمكن لأحد أن يقرّها إلا مجلس الوزراء، فيما الحال أن "إقرارها" حدث في قصر بعبدا! والأهم من ذلك، يتبين من خلفية كل سياسة عون تطويق الحريري في المجال الاقتصادي أيضاً، بعد أن تم تطويقه في مجالات أخرى، سياسية وأمنية وإدارية. وكأن هناك من يريد إبعاد الحريري عن الاقتصاد، الذي ارتبط طوال ثلاثة عقود بالحريرية السياسية. ما يعني أن بعبدا هي التي ستحدد الخيارات الاقتصادية، ليصبح القطاع الاقتصادي بيد القصر الجمهوري، كما هو الحال بالنسبة إلى مركزية القرارات التنفيذية، والسياسة الخارجية، والإدارة الأمنية والعسكرية.

ولهذه الخطة أو الطموح تداعيات واسعة على المستوى السياسي، تقوم على "محاسبة" النهج الاقتصادي السابق برمته. وهذا يضمر تلقائياً تصفية للحريرية السياسية. هنا لا بد من العودة إلى الهجمة التي تعرض لها الرئيس فؤاد السنيورة قبل أشهر، على خلفية الأحد عشر ملياراً، تحت شعار "حملة مكافحة الفساد"، والتي أظهرت أن التصويب عبرها ينحصر في ضرب رموز الحريرية السياسية. وإلى جانب هذه التداعيات، يمكن رؤية المشهد بوضوح أكبر، إذا انتبهنا إلى حقيقة أن كل الخطط والقرارات الأساسية تُتخذ في القصر الجمهوري. وهذا "التقليد" استدرج إليه كل الوزراء من مختلف القوى السياسية، الذين لا يجدون أمامهم إلا القصر الجمهوري لإطلاق مشاريع وزاراتهم. كل هذه الوقائع تذكّرنا أيضاً بطريقة عهد إميل لحود في تعامله مع رفيق الحريري.

بهذا الأسلوب، يعمل عون للإمساك بكل المفاصل الأساسية في البلاد، فحتى الحملات الإعلامية والدعائية تتعمد، عندما لا يتم الوصول إلى حلّ في ملف معين، تحميل المسؤولية لكل القوى السياسية والطبقة السياسية التقليدية، أما عندما يتم إيجاد حلّ ما لمعضلة محددة، فيسجل "الإنجاز" لقصر بعبدا!