أصبح بالإمكان القول إن لبنان دخل في عصر "مقاومتين"، المقاومة العسكرية التقليدية، والمقاومة الاقتصادية. فخلال زيارته إلى روسيا، أعلن الرئيس ميشال عون أن لبنان سيكون على رأس "المقاومة الاقتصادية"، لمواجهة العقوبات والضغوط التي يتعرض لها. قال عون موقفه من موسكو، ردّاً على الضغوط والعقوبات الأميركية. وتمثّل المقاومة الاقتصادية استكمالاً للمقاومة العسكرية التي تكاملت الرؤية حولها بين عون وحزب الله منذ العام 2006. في التحركات "الاحتجاجية"، التي خاضها الطرفان على مراحل متعددة سياسياً، ابتداء من خريف 2006، كان عمادها الاعتراض السياسي والاقتصادي. صحيح أن اللقاء والتحالف الاستراتيجيين بين عون وحزب الله، انطلقا من حاجة سياسية، لكنهما أيضاً يجدان جذوراً تاريخية، تبدأ من الاجتماع على معارضة اتفاق الطائف، وكل ما يرتبط به سياسياً واقتصادياً.

تسوية مع رياض سلامة

وفّر عون لحزب الله على مدى السنوات الفائتة، مظلّة سياسية وشعبية وشرعية. دعم المقاومة العسكرية ضد العدو الإسرائيلي. ما وفّر حماية "شرعية" للسلاح، كما دعم خيار قتال حزب الله في سوريا، فوفّر له شرعية مسيحية واسعة، تحت شعار مواجهة الإرهاب. وهذا التكامل يستكمل اليوم اقتصادياً. وقد افتتح عون عصر هذه المقاومة الجديدة أثناء زيارته إلى روسيا.

لطالما طمح عون إلى تغيير حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، فاستفاد من ضغوط العقوبات الاقتصادية على حزب الله للتصويب على سلامة، وعلى آلية تعاطيه على رأس الحاكمية. فحقق الطرفان من ضغوطهما العديد من الأهداف. حزب الله وفّر طريقة للالتفاف على العقوبات من خلال ابتكارات سلامة، وعون حصل على هندسات مالية يريدها، مقابل تحقيق سلامة للفوز برضى الطرفين لتجديد ولايته.

الانقسام حول الضرائب

الحزمة الأخيرة من العقوبات المالية الأميركية على حزب الله، والضغوط على المصارف وتحذيرها من مغبة اللجوء إلى أساليب التوائية، فرضت على سلامة عدم الخروج بابتكارات جديدة لتجنيب الحزب آثار تلك العقوبات. فانخفض منسوب القدرة على تطويع المصارف. ولكن مع الأزمة المالية المرتقبة، والتي يحذر منها الجميع، تزامناً مع إقرار موازنة تقشفية، ينتقل الصراع إلى مرحلة جديدة، والذي يتجلى في الانقسام الحاد حول كيفية تخفيض العجز في الموازنة، فيلتقي عون وحزب الله على فرض ضرائب على المصارف والشركات الكبرى، مقابل عدم الاقتراب من جيوب المواطنين والموظفين. في المقابل، يقف رئيس الحكومة سعد الحريري إلى جانب فرض ضرائب تطال المواطنين ولا تطال المصارف والشركات. صحيح أن الوزير جبران باسيل كان أول من أشار إلى تخفيض رواتب الموظفين، لكن على ما يبدو أن عون لديه خيارات أخرى تنسجم مع الحزب في فرض ضرائب على المصارف.

التصريح من بكركي

ويتجلى الانقسام في الموقف الحاد الذي أطلقه عون تجاه الحريري بعيد مشاركته في قداس عيد الفصح في بكركي، إذ قال:" نمرّ اليوم بأزمة في لبنان وتتمّ معالجتها. ونتأمل أن تنتهي في أسرع وقت ممكن، لأنّ الوضع لا يسمح بالتمادي بالوقت. ومن ليس لديه الخبرة لإنهائها فليتفضّل إلى بعبدا ونحن نقوم بإنهائها له". بالتأكيد عون يقصد الحريري، والهدف هو الضغط عليه مجدداً، للحصول منه على تنازلات في الموازنة.

فيلتقي عون وحزب الله مجدداً على تغيير الوجهة الاقتصادية للنظام اللبناني، القائم على قوة القطاع المصرفي. وهذه تمثّل وجهاً آخر من التكامل بينهما، بعد التكامل في فرض التغيير على اتفاق الطائف بالممارسة والأعراف الجديدة. وأي ضغوط من هذا النوع تمارس على المصارف، من شأنها تطويع أرباب هذا القطاع، ما يشكل أيضاً تغييراً في جوهر بنية النظام الاقتصادي، بمعزل عن صحة ذلك من عدمه.

استنساخ النموذج الإيراني

وتلك الضغوط المراد فرضها على المصارف والشركات الكبرى، لها غاية حماية الوضع الاقتصادي والمالي من الإنهيار. لكن بالنسبة إلى قوى سياسية أخرى، فهي تمثّل محاولة من عون وحزب الله لتطبيق مفهوم "المقاومة الاقتصادية"، عبر تعزيز مركزية الدولة على القطاعات الاقتصادية والمالية والمصرفية. فيمكن حينها تجنّب آثار العقوبات، فيما هناك من يرى أن الحزب يريد من خلال الخطة أو الاقتراحات التي سيقدمها لحلّ الأزمة اللبنانية، استنساخ تجربة النظام الاقتصادي الإيراني، والذي للحرس الثوري فيه حصة وازنة وكبيرة، وكذلك إمكانية استنساخ تجربة الحشد الشعبي في العراق، الذي يسيطر على مقدرات واسعة من العائدات النفطية.

لكن، هناك أسئلة جدية تتعلق حول كيفية تعميم هذا النموذج للخروج من الأزمة. فلبنان ليس فيه مقدرات نفطية، ويحتاج إلى حدّ أدنى من الإصلاح وجذب الاستثمارات. ولأن حزب الله يسعى إلى المزيد من التأثير والتقرير في الاقتصاد، فإن المسار الذي يتبناه (مع عون) فرض ضغوط على القطاعات الفاعلة، ويرى أنه مع بقاء الهامش ممنوحاً للشركات الكبرى أو للمصارف، إنما مع سيطرة أكبر وتدخل أوسع للدولة اللبنانية عليها. وهذا النوع من المركزية من شأنه أن يرتد إيجاباً على حزب الله، الذي يمثّل القوة الأقدر على فرض ما يريد في لبنان، سياسياً وعسكرياً، وبالتالي اقتصادياً. وبالتالي كل الضغوط التي تمارس اليوم في المجال الاقتصادي، ستؤدي إلى تقويض القوى الاقتصادية لتطويعها، والكسب منها.

التلويح بالحرب

ويأتي تفعيل مفهوم "المقاومة الاقتصادية" تزامناً مع اشتداد الضغوط على إيران وحزب الله، وقرب سريان الحزمة الثانية من العقوبات على طهران، وانتشار رسائل واضحة أوصلها الإيرانيون إلى دول متعددة بأن طهران لن تسكت عن محاولات خنقها، وستلجأ إلى فرض مواجهة جديدة لتخفيف ضيقها. والأهم أن هذا الكلام يأتي بالتزامن مع تسريب كلام للأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، حول احتمال اندلاع حرب بين الحزب واسرائيل في الصيف المقبل. والحزب لم ينف هذا الكلام بشكل رسمي، مع الإشارة إلى أن الصحيفة التي سرّبت الخبر معروفة بعلاقاتها الجيدة مع الحزب، ما يطرح سؤالاً أساسياً حول خلفية حصول هذا التسريب وأهدافه، مع الاكتفاء بنفيه عبر مصادر إعلامية قريبة من الحزب، غير رسمية. وهذا ما قد يكون مجالاً لفتح الباب أمام تأويلات كثيرة، في إطار الحرب النفسية وإيصال الرسائل بأن الحزب جاهز لإشعال الجبهات بحال استمر الحصار والخنق.

وعلى الأرجح، تأتي التسريبات كما لو أنها تهيئة نفسية للجمهور وللخصوم. وهذه "المقاومة العسكرية" لن تكون منفصلة عن "المقاومة الاقتصادية" في مستقبل قريب.