المحكمة الدولية أوفدت بعثة أمنية إلى بيروت لرصد ردود الفعل
 

يشهد الحراك الشعبي السوداني الزاخر سخطاً هائلاً على «الإخوان المسلمين»، والتفرعات المنبثقة عنهم. وقد حدث ذلك في مصر من قبل. إنما الفرق بين البلدين أنّ جماهير الفئات الوسطى في السودان هي التي تحاول كسْر السطوة الحزبية اليوم، بينما ما استطاعت فئاتٌ شعبية مصرية القيام بهذه المهمة، بل قام بذلك الجيش المصري، وهو الأمر الذي حدث من قبل في الجزائر في التسعينات أيضاً. لقد تحدث كثيرون من الخبراء العرب والأجانب عن أنّ السبب في فشل الربيع العربي واستيلاء الإسلاميين يعود إلى هشاشة المجتمع المدني وحراكاته. ومع أنه من المبكّر التقدير بشأن الوضع السوداني؛ لا يبدو صحيحاً أنّ قوى المجتمع المدني في السودان أقوى منها في مصر أو الجزائر. فهل يكمن الفرق في موقف الجيش؟ قد يكون الأمر كذلك. لكن الذي أراه أنّ الخطأ في التحليل والتعليل هو في الأفهام المتداولة للمجتمع المدني وقواه. فليس صحيحاً أنّ الشبان «المدنيين» لا علاقة لهم بالدين، إنما يتحكم بتصرفاتهم أمران: سوء الإدارة في نظام الحكم، وتحكُّمُ الحزب الواحد سواء أكان إسلامياً أم غير إسلامي.

لقد صار الصحويون («الإخوان» وأشباههم) فئة تمتلك جمهوراً من العامة والفقراء، وقادتهم في الأعمّ الأغلب من الفئات الوسطى المهنية والتجارية. وتميزوا ببنية حزبية صلبة. واصطدموا في كل مكانٍ بالجيش والقوى الأمنية حتى في السودان. لكنّ حسن الترابي استطاع إنشاء خلايا في الجيش السوداني وهو الذي دفعها إلى التمرد عام 1989. أما نجاحهم في الحصول على جمهور في كل مكانٍ نشطوا فيه، فيعود في نظر المراقبين، وقبل المعارضة لسوء الإدارة، ولحكم الحزب الواحد - إلى قدراتهم «التلاؤمية» في الشأن الديني. فهناك أشواقٌ عارمة لدى الجمهور العام أن يكون لدينهم تأثيرٌ في إدارة الشأن العام، زادت من فاعليته العولمة والميول لخصوصيات الهوية ليس في المجتمع فقط؛ بل في الدولة أيضاً (ولنلاحظ ما يجري في الهند وإسرائيل بل والولايات المتحدة منذ عقود). التلاؤمية الصحوية اشتغلت وتشتغل على إعطاء الانطباع بالقدرة على التأليف بين الأصالة والمعاصرة: الأصالة في تأكيد الهوية واستطراداً الأمانة للإسلام، والمعاصرة في تبني الأدوات الحديثة في الرئاسات والبرلمانات والمصارف (الإسلامية)، وإيلاء الشأن الاجتماعي اهتماماً خاصاً. وتزداد مظاهر كسب الشعبية بالمعارضة والتواصُل مع الخارج الإقليمي والعالمي.

إنّ الفئة الأُخرى البالغة القوة والتأثير على الجمهور في الإسلام السني المعاصر هي الفئة أو الفئات السلفية. ولا شكّ أنّ أعدادَ هذه الفئة أكبر بكثيرٍ في الجمهور في سائر أنحاء العالم الإسلامي. لكنهم ليسوا مسيسين بالدرجة التي عليها الصحويون، فالصحويون يُنشَّأون على تطلب السلطة منذ الصِّغَر، وليس كذلك السلفيون الذين يُنشَّأون على طهورية العقيدة واستقامتها. ولذلك لا يستطيعون تكوين أحزاب صلبة، لكثرة الخلافات التفصيلية في صفوفهم، وافتقارهم غالباً إلى القيادات الكاريزماتية غير العنيفة. وقد ألْهتنا وصرفت انتباه المراقبين الأجانب والدول عن أهميتهم وتأثيرهم حركاتُ العنف التي انخرط فيها مَن سمَّوا أنفسهم «السلفيين الجهاديين» من مثل «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة»... إلخ. فقد أظهر السخط الإسلامي العام على ذلك العنف الأعمى ضد المسلمين الآخرين وضد العالم، هؤلاء باعتبارهم مجموعات صغيرة ومعزولة بين المليار والخمسمائة مليون مسلم سني. السواد الأعظم من السلفيين المعارضين غير عنيف. ولأن السلفي يملك طهورية رنّانة وليست له أهداف سلطوية قريبة، بل أهدافه القريبة دعوية وتربوية؛ فإنّ انتشاره أسهل. لكنْ عندما يصل الأمر إلى ضرورة إقامة سلطة في العالم المعاصر، يكون الأمر شديد الصعوبة عليه. وذلك لأنه لا يكتفي بالأصالية مثل الصحويين، بل يعتمد التأصيل. والتأصيل يعني الردَّ إلى الأمر الأول، إلى الكتاب والسنة. ولذلك ومنذ مائتي عامٍ وأكثر ظهر بين السلفيين مفكرون وإصلاحيون وعلماء كبار، أما السلطة فيقودهم فيها غيرهم، ويضطر إلى تجاوُزهم إذا طمح لتحويل السلطة إلى دولة، لأنّ الدولة الحديثة ملزمة بالانخراط من دون شروط، وبضرورة التعامل مع الخارج بشروطه وحدوده.

أما الفئة الثالثة أو الفئات فهم الصوفية. فالصوفيون مثل خصومهم السلفيين يشهدون إحيائياتٍ ونهضاتٍ متوالية. وعندهم تنظيمات هي الطُّرُق الصوفية في التاريخ وفي الحاضر. ولا يمكن اعتبارها أحزاباً لأنها أكثر رحابة. وما عادوا ينتشرون بين العامة الفقيرة التي استأثر بناشطيها الصحويون والسلفيون. بل ينتشرون اليوم في الفئات الاجتماعية الوسطى. وهم ذوو وداعة وذهنياتٍ هادئة. وحتى عندما ينحازون فإنّ ذلك يكون بفعل شيوخهم الذين يعتمدون عليهم في دنياهم وآخِرتهم. وليست لدى شيوخهم مشاريع سلطوية (إلاّ ما يزعمه إردوغان عن غولن!)، وهم غالباً من أصدقاء الحكام ومُرشديهم. وقد ذكرت لأحد كبارهم أنّ المتصوفة الجدد تسيَّسوا مثل الآخرين، وأحلتُه على النموذج الإندونيسي؛ حيث هناك أحزاب ضخمة صوفية المنزع، وتعمل في السياسة. فابتسم وأحالني على كتاب محيي الدين بن عربي: «التدبيرات الإلهية للمملكة الإنسانية»، ثم قال: «ألم تقرأْ قولَ المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم».

وأخيراً، فإنّ الفئة الرابعة التي تستحقُّ الذكر هي فئة المحترفين، وهم فريقان: فريق الفضائيات والاجتماعات الحاشدة، وفريق المؤسسات الدينية. أما فريق الفضائيات والمواقع والاحتشادات، فيعتمدون على ذلاقة اللسان، والسحر الشخصي، وإيهام إيجاد الحلول لكل مشكلات الشباب وبخاصة النساء. وقد بدأوا بتقليد الدعاة الإنجيليين الأميركان، ثم صارت لهم أساليبهم الخاصة، وبينهم محتالون، لكنْ بينهم أيضاً أُناسٌ همُّهم تحبيب الناس في الدين وتسهيله عليهم بشتى السبل؛ وأهمها جانبان: جانب التخفيف من شأن الحرام في الدين، وجانب الإرشاد إلى النجاح في الحياة.

وأصِلُ إلى فريق المؤسسات الدينية. لقد نشط هؤلاء كثيراً وبخاصة قادتهم البارزون بعد انفجار موجة التطرف والإرهاب، وبدوا الأكثر ارتياعاً من هذه الظاهرة، وقاموا بنشاطاتٍ كثيرة سواء في الداخل أو تجاه الخارج الديني والعالم. وهؤلاء يمثلون الإسلام الرسمي. ولا أقصد بالرسمي أنهم تابعون للسلطات. بل الإسلام الرسمي هو نتاج تطور حدث في القرن العشرين. وذلك للوصول إلى جوامع مشتركة بين السلفيين والإصلاحيين والحداثيين المعتدلين. لقد خرجوا من الإسلام الشعبي، إصغاءً للسلفيين والإصلاحيين، وأنجزوا تلاؤماً غير مسيَّس بين التقليد الذي هم حراسه، والظروف العصرية. فهم طهوريون إلى حدٍّ ما، وانتقائيون، ويهتمون بالتجديد الفقهي أكثر مما يهتمون بالعقائديات وخصوصيات الهُويّة. ومعظم رواد المساجد هم ممن يميلون إليهم باعتبارهم وسطيين ومعتدلين، وتستطيع أن تأخذ دينك عنهم. وكان الأميركيون قد فكروا في الصوفية بعد أحداث 2001 ولا يزالون، لكنهم يرون الآن أنّ المؤسسات الدينية تشارك أكثر من الآخرين اليوم في تحديد وجهة الإسلام. والملاحَظ أنّ هؤلاء هم الأكثر إصراراً في خطابهم على وحدة الإسلام والمسلمين.

هي فئاتٌ أربع بين المتدينين العرب والمسلمين، ستظل تشغلنا في المستقبل القريب، ويكون علينا الاهتمام تفكيراً وتدبيراً.