يرفع لبنان وحزبه لواء الحرب للدفاع عن حقوقه المائية الكاملة. في هذا الوقت تُبرم دول اتفاقات مع إسرائيل غير مكترثة بالموقف اللبناني الرسمي المتجرد من أي براغماتية تتيح له استغلال المتاح على الأقل.
 

لم ينخرطْ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حملته العسكرية في سوريا إلا بعد تنسيق متعدد الأبعاد جرى قبل ذلك مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. تمّ الأمر قبل أن يلتقي الرئيس الروسي بنظيره الأميركي باراك أوباما على هامش المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة في سبتمبر من عام 2015. صادق الرجلان على ما تم الاتفاق عليه بين موسكو وتل أبيب، وأرسل بوتين طائراته في الـ30 من نفس الشهر بعد ساعات على انفضاض اجتماعهما في نيويورك.

كان الشرط الإسرائيلي مدخلاً للتدخل العسكري الروسي في سوريا. ويبدو الشرط الإسرائيلي هذه الأيام مفصلياً في تحديد مسارات التسوية السياسية التي تسعى إليها موسكو في سوريا. وما الضجيج حول رفات إسرائيليين (جنودا وجواسيس) تنتقل من التراب السوري باتجاه إسرائيل، إلا حلقة جديدة من مسلسل التنسيق الحميم الروسي الإسرائيلي الذي ينخرط داخله، بقليل من الحرج، النظام السياسي الأمني في دمشق.

على هذا فإن عملية تطبيع من نوع خبيث جارية بين دمشق وتل أبيب. ليس مطلوباً من دمشق سوى الانصياع التام لمطالب إسرائيل التي يحملها الروس. بالمقابل سيكون على إسرائيل تقديم الخدمات المطلوبة لتسويق التسوية التي يريدها بوتين لتعويم نظام بشار الأسد، والتي ما زالت تلقى رفضا أميركيا أوروبيا علنيا.

وفق هذا المعطى الجلي والواضح يتأمل لبنان سقوط نظام الممانعة في سوريا داخل دينامية يختلط فيها الأمن والسياسة خدمة لمصالح إسرائيل ومصالح نتنياهو بالذات. دفع لبنان ثمنا غالياً، وما زال يدفع، جراء سقوطه تحت نفوذ الممانعين من طهران إلى بيروت، فيما أبجديات الخضوع السوري تنبري وسط صمت إيراني تحت الرعاية الروسية وفق السيناريو والإخراج الذي ترتئيه موسكو.

واتساقاً مع روحية الممانعة المتّصلة حيوياً بسياسات طهران ودمشق، اتخذ لبنان مواقف متصلبة حيال حقوقه في المياه البحرية المتنازع عليها مع إسرائيل. باشرت إسرائيل استغلال ثروات النفط والغاز في مياهها، فيما ما زال لبنان مرتبكاً في إصدار القوانين والتشريعات الآيلة يوماً ما إلى استغلال تلك الثروات في مياهه. فإضافة للمماطلة المتعلقة بأسباب سياسية داخلية كان في مقدمها تأخر انتخاب رئيس للجمهورية وبرلمان جديدين، يدور جدل لبناني إسرائيلي متعلّق بالحدود البحرية يقف حجر عثرة أمام إمكانية تلزيم لبنان للبلوك رقم 9 الحدودي وفق الحصة التي تراها بيروت حقاً لها.

ولئن يشعر لبنان أن حصون الممانعة تتصدّع فترتكب دمشق المحرمات صوناً لمستقبل نظامها السياسي، فإن بيروت تتنبه ربما إلى أن مصالح لبنان لا يمكن أن تكون مرتهنة للمزاج الظرفي للنظام السوري في التعامل مع “العدو”، ولذلك الملتبس في إيران، والذي سيتعلق بقواعد المفاوضات المحتملة المقبلة مع الولايات المتحدة.

وإذا ما كان التطبيع مع إسرائيل أو التعامل معها يصبح حلالاً بالرعاية الروسية، وحراماً بالرعاية الأميركية، فإن وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل حمل إلى موسكو في الأيام القليلة الماضية أسئلة قد تندرج داخل سياق تستجدي بيروت من خلاله روسيا أن ترعى “فتوى” تحلل للبنان التمتع بالمرونة في الموقف من حدود لبنان البحرية مع إسرائيل، كما تمتعت دمشق بالرشاقة العجائبية في ردّ رفات الإسرائيليين دون مفاوضات ودون مقابل معروف.

يريد لبنان حصّته كاملة على الحدود البحرية مع إسرائيل. أطل الأميركيون مباشرة على ملف الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. ومنذ أن رسم الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف الخط الحدودي الذي ارتآه مناسباً بين مياه البلدين عام 2012، بقيت المداولات والزيارات المكوكية الدولية والأميركية لا تحيد عن معايير الدبلوماسي الأميركي. تعطّل النقاش وتجمّد ذلك الملف، فأعاد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ساترفيلد، إطلاقه وطهوه ورشّ توابله مكررا الزيارات لبيروت وتل أبيب، ليعود بعد ذلك حاملاً طبق هوف نفسه.

يقترح “خط هوف” على لبنان الاستغلال الكامل لـ60 بالمئة من المنطقة المائية الحدودية المتنازع عليها، وتجميد أي استغلال للـ40 بالمئة المتبقية إلى أن تحلّ أمرها مفاوضات لاحقة. رفض لبنان ذلك وأصر على استغلال مياهه كاملة دون نقصان، وهدد الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله باستخدام القوة للدفاع عن الحصة الكاملة للبنان.

يرفع لبنان و”حزبه” لواء الحرب للدفاع عن حقوقه المائية الكاملة. في هذا الوقت تُبرم دول اتفاقات مع إسرائيل غير مكترثة بالموقف اللبناني الرسمي المتجرد من أي براغماتية تتيح له استغلال المتاح على الأقل، خصوصا أن توازن القوى في المنطقة، لاسيما ذلك المرتبط بموقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالذات، لا يشي بأن ضغوطاً ستمارس على إسرائيل لتليين موقفها والتخلي الكامل عن الحصة الكاملة التي يطالب بها لبنان.

غير أن جديد هذا الملف أن موقف باريس بات يتبنى موقف واشنطن في التمسك بـ”خط هوف” الشهير. قيل في بيروت إن السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه قد أبلغ أولي القرار في بيروت بهذا التحوّل، وأوحت بعض الهمهمات عن أن موقف لبنان وفق ما يرسمه المجتمع الدولي من خلال “خط هوف”، بات مرتبطا بروحية مؤتمر “سيدر” الذي يعوّل عليه لبنان للخروج من أزمته الاقتصادية.

تشعر بيروت في استقبالها مؤخراً لوزيري خارجية اليونان وقبرص، إضافة إلى زيارة الرئيس اليوناني أن الدول المعنية بغاز شرق المتوسط ركبت قطارا ينطلق دونها. يغرد لبنان متلعثماً على نحو يبعده عما يُحيكه العالم في ملف غاز شرق المتوسط. بدا أن ثورة ستشهدها المنطقة تعيد رسم خرائط الثروة في العالم. تبني الدول المعنية استراتيجيات الحاضر والمستقبل وفق هذه الحقائق المستجدة. حتى أن مستقبل التسوية السورية متعلق في جانب كبير بمصالح دول الغاز الكبرى (لاسيما روسيا) وتلك المترجلة حديثا (تركيا مصر قبرص واليونان.. إلخ). ووفق تلك المصالح لن يسمح لصواريخ حزب الله التي لوّح بها نصرالله أن تدخل في حسابات سوق الغاز الجديد في المنطقة.

في أوائل هذا العام، وفي شهر يناير بالذات، التقى وزراء الطاقة من قبرص ومصر واليونان والأردن وإسرائيل، إلى جانب ممثلين عن إيطاليا والسلطة الفلسطينية، في القاهرة. ناقش الجمع وفق البيانات الرسمية سبل التعاون الإقليمي في الغاز البحري. وكان أن أطلق الاجتماع منتدى غاز شرق المتوسط.

لم يدعَ لبنان إلى الاجتماع وإلى عضوية هذا المنتدى، ولا يبدو أن أحدا يكترث لحرد لبنان وعزوفه عن الانخراط الكامل والحيوي داخل قطاع واعد من شأنه حلّ أزمة لبنان الاقتصادية، بدل التلويح البليد بالعزم على خفض أجور موظفي القطاع العام.

بالمناسبة، باسيل الذي أنذر الموظفين بذلك القدر القادم هو من يحمل ملف النزاع إلى موسكو. في ذلك أن الحاجة أم الاختراع، وأن حاجات دمشق التي أفتت بمراعاة مطالب إسرائيل قد تسوّغ لحاجات بيروت المرور عبر موسكو لمنح “خط هوف” بركة روسية يخضع لها حزب الله. بالمقابل فإن روسيا التي تطمح بتمدد نفوذها في سوريا صوب لبنان، والتي تنخرط شركاتها في أعمال التخزين في طرابلس (روسنفط) والتنقيب في مياه لبنان (نوفاتك)، لها مصلحة في إيجاد الفتوى المناسبة التي تدفع لبنان نحو سوق الإنتاج الذي بدأ في المنطقة منذ سنوات.

سنتأمل بملل انعطاف لبنان الممانع برعاية حزب الله باتجاه “خط هوف” الشهير، ذلك أن من سكت على التطبيع في سوريا الذي قد يشتم منه تواطؤا إيرانيا ضمنياً، لن يتعثر كثيرا في إيجاد الحجج، طالما أن وفاقا روسيا إيرانيا يرسم للحزب وطهران خطوطا أخرى.