ماذا عن بشار الأسد، متى بشار الأسد؟ تردّد السؤال كثيراً في الأسبوعين الماضيين، على وقع استقالة عبدالعزيز بوتفليقة وعزل عمر البشير، فهذا منطق الأشياء. انتهت الحياة السياسية للرئيسين قسراً ولو لم يُضطرَّا إلى ذلك لكانا تسببا بـ«سورية أخرى»، كما خشي العسكريون الذين كانوا شركاء بل حلفاء لهما طوال سنينهما المديدة في السلطة. وفي سياق تأكيد أن نهاية حكم الأسد لم تحن بعد، راح العارفون بطبيعة نظامه يستعرضون عوامل «صموده» حتى الآن، وهي داخلية وخارجية، كما أنها كثيرة يصعب إجمالها في عجالة، وإذا أمكن اختزالها في أمر واحد فهو بلا شك اختلاف طبيعة المؤسسة العسكرية وخضوعها في سورية لنفوذ العائلة والطائفة ما لم يمكّنها من التمايز عن الحكم وإبقاء نفسها على مسافة منه. ثمة عامل آخر لـ«الصمود» وهو الخوف من «البديل الإسلامي»، الذي استجدّ بعد تفجّر العنف واتساع الاقتتال، ومع أن النظام يتحمّل أولاً مسؤولية عسكرة الانتفاضة، إلا أن أبناء الطوائف الأخرى فضّلوا التخلّف والتطرف اللذين عرفوهما لدى النظام على تخلّف وتطرّف متوقّعين أو مفترضَين لدى الإسلاميين.


مدهشٌ إلى أي حد بدت الانتفاضتان الجزائرية والسودانية مستفيدتين من تجربتي سورية وليبيا، ليس فقط للحراكين الشعبيين بل أيضاً وخصوصاً للمؤسستين العسكريتين. كان كبار الضباط السودانيين شركاء للبشير مدينين له بالولاء، لكن هذا لم يمنعهم في اللحظة الحرجة من رؤية الخطر إن هم واصلوا تنفيذ الأوامر من دون تقدير العواقب التي تتعلّق بمستقبلهم وبمستقبل المؤسسة التي كان لها منذ تأسيسها بعدُ وطني - شعبي لم يتبدّل، على رغم تعاقب الانقلابات والتمرّدات وصولاً إلى انفصال الجنوب كليّاً ووجود ثلاث إلى أربع حالات حروب أهلية في أرجاء عدّة من السودان، لكن أمام هذا الجيش الآن تحدي تصحيح العلاقة بينه وبين الدولة والشعب في آن.

في الجزائر أيضاً ظلّت للجيش مكانته الوطنية - الشعبية، على رغم تعاظم سطوة قيادة جيله السابق على الحياة السياسية والحزبية، ويُحسب لبوتفليقة أنه عزل رموز ذلك الجيل الذين كانوا متحكّمين بصنع الرؤساء والحكومات والبرلمانات، ولم يبقَ منهم سوى عدد محدود هم الذين يديرون الأزمة الراهنة ويريدون إدارة المرحلة الانتقالية، لكنهم سيخطئون إذا ما أصرّوا على دور للجيش يتخطّى صلاحيته الدستورية.

قبل الأزمة التي تحوّلت إلى صراعات مسلّحة انكشفت الجيوش في سورية وليبيا واليمن بكونها موالية كليّاً لرأس النظام وبالتالي غير مستندة إلى عقيدة وطنية. لم يكن للجيش السوري أو اليمني أو الليبي أي دور سياسي مباشر، لأن مَن يأمر سياسياً هو نفسه مَن يأمر عسكرياً، ولأن السيطرة الفعلية على العسكر كانت أولاً لقادة يؤهلهم انتماؤهم القبلي أو العائلي أو الطائفي وتساندهم كتائب موازية أنشأتها الأجهزة لمضاعفة الرقابة على الرتب الأدنى. لم يتردّد النظام السوري في إحداث انقسام في صفوف جيشه مجازفاً بفقد نصفه على الأقل، فحين امتنع جنودٌ سُنّة خلال قمع التظاهرات السلمية عن إطلاق النار على من يعتبرونهم أهلهم كان قادتهم من الضباط العلويين يأمرون بقتلهم غيلةً أو إعدامهم ميدانياً، وعندما بدأت الانشقاقات في الجيش احتجزت فرقٌ كاملة في ثكنٍ معزولة لفترات مفتوحة تجاوزت أعواماً عدة لمنع جنودها من الانضمام إلى فصائل مقاتلة للنظام. وفي اليمن لم يتوانَ الرئيس المخلوع عن وضع فرق عسكرية موالية له في خدمة الانقلاب الذي نفّذه الحوثيون الذين قتلوه لاحقاً، وفي بعض الوقائع تواطأ طرفا الانقلاب لإسقاط قواعد عسكرية لمجرد أنها «موالية الدولة» كما يُفترض أن تكون. أما في ليبيا فتبيّن سريعاً أن نظام القذافي الذي كان عسكرياً - أمنياً حرص على ألا يكون الجيش الوطني قوياً ومتماسكاً لئلا ينقلب عليه، وآثر الاعتماد أكثر على مرتزقة موالين لأمواله...

تشابهت تجارب البلدان الثلاثة في إنشاء جيوشها على أسس فئوية غير هاجسة بالبعد الوطني الحتمي، وهذا ما انعكس على أوضاعها بعدما قادتها الأنظمة نفسها إلى مصيرها الحالي. غدت جغرافية البلد وأرضه في كنف المجهول، ومجتمعاته مقسّمة وممزّقة، كذلك وحدة الشعب والدولة والمؤسسات. وإذ تحاول الأمم المتحدة صهر كل التعقيدات في أطر حلول سياسية فإنها تجد نفسها حيال أزمات غير مسبوقة في التاريخ البشري، وحيال أنظمة بَنت سلطانها على التفرقة بين فئات الشعب، وعلى قتل الوطنية أو تغييبها على ما ظهر سابقاً في العراق ويظهر أكثر فأكثر في لبنان الذي عانى أولاً من حكم النظام السوري لـ30 عاماً ويعاني الآن من حكم نظام «حزب الله»، فالإرث الذي خلّفته أنظمة الأسد (حتى بوجوده) والقذافي وعلي صالح - الحوثيين هو الوصفة الشريرة التي تحول دون انهاض الدولة وإعادة توحيد القوات المسلحة واستعادة الاستقرار، مع ما يترتّب على ذلك من انهيارات اقتصادية وخدماتية واجتماعية. ومع أنه لا بدّ من الاحتفاظ بالأمل في حلول سلمية وسياسية إلا أن هذه الحالات الاستعصائية بعد تفجّر الأزمات واستفحالها بدت كما لو أنها تتيح للجماعات الإسلامية بمختلف تنوّعاتها أن تنبري وتوحي بأن هي الحلّ أو أن لديها الحلّ السحري، لكن حيثما تصدّرت هذه الجماعات ونجحت كان ذلك فخّاً للبلد والشعب على ما تبيّن في تونس ومصر، والأسوأ أنها حيثما تفشل لا تلبث أن تعمّق ذلك الفخّ وتغوص في تطرّفها فلا يخطر لها أن تنكفئ لتراجع نفسها فكراً وأهدافاً وممارسةً وكفاءات.

على العكس من ذلك، أظهر الحدثان السوداني والجزائري أنه حيثما تبقى الدولة والمؤسسة العسكرية وتكون انتفاضات الشعب سلمية ومطالبه سليمة تتوفّر إمكانات التوصّل إلى حلول سياسية. ويُفترض عندئذ التزام بضعة شروط، منها: أن يكون هناك توافق بين الجيش والحراك الشعبي على التغيير كهدف استراتيجي، وتعاون حقيقي بينهما خلال المرحلة الانتقالية، وحسم سريع للخطوات الأولية الواجبة للقطع مع الممارسات والأنماط إلى أرساها النظام السابق، والتزام خريطة طريق واضحة لنقل السلطة والإصلاحات التدريجية... فأي إخلال من هذا الطرف أو ذاك، أو تشويش وتخريب من جانب طرف ثالث، يمكن أن يفسد العملية الجارية والمفاهيم التي تسيّرها. وقد أظهرت تجربتا السودان والجزائر مدى استيعاب الجيشين والحراكين الشعبيين خطورة ما جرى في سورية تحديداً، فعلى رغم انعدام مزمنٍ للثقة راهن العسكر هنا وهناك على أن تبقى الاحتجاجات سلمية ولم ينحازوا في نهاية المطاف إلى النظام، بل إلى ما يمكن اعتباره ولو نظرياً «المصلحة العليا للدولة»، فيما راهن المحتجّون على سلميّتهم لامتحان انضباطية العسكر ودفعهم إلى الاقتراب من مطالبهم.

هذا ما حصل في الحالَين وهو بداية مسار صعب وطويل، لكنه واعدٌ في غياب العنف. غير أن مساراً كهذا كان ولا يزال مستحيلاً في عُرف نظام الأسد، وبالتالي فإن مآلاته تبقى سلبية إن لم تكن كارثية. فعلى رغم أن الأزمة تدوّلت إلى حدّ بات معه النظام - إسوة بمعارضيه - تحت رحمة المتدخّلين الخارجيين، فإن أسوأ الحلول لا تزال هي المفضّلة عند النظام، حتى لو كانت تقسيمية. إذ يعتقد الأسد أن أي حل للأزمة لن يكون مقبولاً إذا لم يرتكز إلى نظامه كما هو بأجهزته وشبّيحته وميليشياته وحلفائه الإيرانيين. كانت الأطراف الدولية التي ناوأت الأسد ولم تدعم إسقاطه تجنّباً للبديل الإسلامي، ومنها الأميركيون والأوروبيون، ضغطت لكي يقبل النظام بإصلاحات تتيح الإبقاء على الدولة والمؤسسات، معتبرةً أن الأسد لا يمكنه أن يكون جزءاً من حلٍّ دائم. أما الدول التي دعمت بقاءه وأنقذته من السقوط، وهي روسيا وايران وإسرائيل تحديداً، فتهتمّ بمصالحها أولاً وأخيراً وتواصل ابتزاز النظام من دون أن تعير اهتماماً لأي حل سياسي يمكن أن يُنصف الشعب السوري.