مرّ أقلّ من شهر على زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون، ووزير الخارجية جبران باسيل، إلى روسيا. تلك الزيارة التي وصفتها دوائر مقرّبة من الرجلين بأنها استراتيجية، يبدو أنها احتاجت زيارة ثانية من قبل باسيل للقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف. فخلال الأيام التي فصلت ما بين الزيارتين جرت تطورات عديدة في المنطقة، من بينها زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى لبنان، ولقائه مختلف المسؤولين فيه، والتأكيد على ضرورة إنجاز توافق في ترسيم الحدود البرية والبحرية، ربطاً بملف النفط. وكان الوزير الأميركي قد استبق زيارته إلى لبنان بلقاء جمعه بنظرائه اليوناني والقبرصي والإسرائيلي في تل أبيب. وهذا ما يوجب الربط ما بين هذا اللقاء والزيارات التي اجراها وزيرا خارجية اليونان وقبرص إلى لبنان الأسبوع الفائت.

تمتين الصلات بروسيا

ملف ترسيم الحدود والتسوية النفطية هو الطاغي في المرحلة المقبلة، إلى جانب جملة ملفات أخرى، تتعلق بأمن اسرائيل، وبالمبادرة الروسية لإعادة اللاجئين، المتعثرة باعتراف الروس، وفق البيان الصادر عن الكرملين بعيد اللقاء بين عون والرئيس فلاديمير بوتين. وإذا ما كانت الزيارة الأولى هدفها التعارف وفتح آفاق علاقات باسيل مع الروس للمستقبل، خصوصاً في ضوء المعطيات التي تحدّثت عن سعي باسيل مركّز لنسج صلات متينة مع الروس، انطلاقاً من قناعته أنهم سيكونون أصحاب التأثير الكبير في مجريات المنطقة وأحوالها مستقبلاً، وبالتالي فأي طموح رئاسي ومشروع سياسي لا بد أن يمرّ عبر تنسيق مع الروس... فإن الزيارة الثانية تأتي في إطار تعزيز هذه العلاقات، ووضع أسس عملانية لها، وفق برنامج محدد.

لا شك أن جملة التطورات التي شهدها لبنان والمنطقة مؤخراً، حتّمت ترتيب باسيل لزيارته الثانية، وربما كانت تطورات أفادته وخدمته في الشق الخاص بأجندته الشخصية. مع ذلك، الزيارة تنطوي على أهميتها الخاصة من ناحية التوقيت والظرف، لا سيما تلك المرتبطة بجملة الأحداث التي كانت روسيا لاعباً أساسياً فيها، على غرار العلاقة بين إسرائيل والنظام السوري، التي تستمر روسيا بالعمل على تنظيمها وترتيبها وتحسينها، بل ووضع أسس توافقية لها، ما بعد الاعتراف الأميركي بالسيادة الاسرائيلية على الجولان، وما بعد تسليم رفات أحد الجنود الإسرائيليين إلى نتنياهو برعاية روسية، بالإضافة إلى استمرار المفاوضات لتسليم المزيد من الرفات، ومنها الحديث عن العثور على ساعة يد إيلي كوهين، والتفاوض حول إعادة رفاته أيضاً. هذه الأحداث تقدّم روسيا بصورة الناجح في إدارة العلاقة السورية الإسرائيلية، والتي ستدفع بالكثيرين إلى التعويل عليها، لحلّ العديد من أزماتهم العالقة. وهذا ينسحب بالتأكيد على لبنان.

التسوية الحدودية

منذ مدة ليست بالقصيرة، تلقى لبنان جملة رسائل روسية تبدي الاستعداد للعب دور أساسي في ترسيم الحدود وتنظيم الوضع مع الإسرائيليين، وربما كل النقاط التي تسجلها موسكو في سجلّها ستدفع إلى الركون إليها كوثيق موثوق من لبنان وسوريا وحزب الله وإيران واسرائيل. وهذا لا شك دافع مهم لزيارة باسيل الثانية إلى موسكو.

وإذا ما كان الالتقاء الأميركي الروسي استراتيجي في حماية أمن اسرائيل، وفي تقديم الهدايا إلى نتنياهو ما قبل الإنتخابات، فبالتأكيد أن لذلك تبعات عديدة، قد تنسحب على التوافق بين الطرفين حول إنجاز تسوية حدودية بين لبنان واسرائيل برعاية روسية. واذا ما كانت واشنطن تندفع في تقديم كل ما يريده الاسرائيليون، واسرائيل تحصل من النظام السوري على كل ما تريد، وتقدم له أسباب إعادة تعويمه، فهذا كله يرتبط بالوصول إلى صفقة القرن التي توافق عليها أميركا وروسيا.

مبادرة فرنسية

عملية ربط هذه النقاط ببعضها البعض، تقود إلى خلاصة واحدة تفسّر هدف زيارة باسيل إلى موسكو، وهو زيادة التنسيق معها أولاً، ووضعها في أجواء المحادثات التي أجراها مع نظيريه القبرصي واليوناني، حول ترسيم الحدود والاتفاق على خطوط النفط والغاز. لا سيما أن باسيل يعوّل على دور روسي فاعل في هذا الملف، ويعتبر أن احداً لن يكون قادراً على حلّه إلا روسيا، التي لديها شركات نفطية مشاركة في عمليات التنقيب عن النفط.

وإلى جانب روسيا، تستعد فرنسا ايضاً للدخول في مبادرة تتعلق بترسيم الحدود وإنجاز هذه العملية. وهذا يمكن التقاطه من خلال الجولة التي أجراها السفير الفرنسي برونو فوشيه على مختلف المسؤولين في الأيام الماضية. وعلى الرغم من أن جولة السفير ارتطبت بمندرجات مؤتمر سيدر، ووضع مهلة زمنية لتنفيذ الإصلاحات لينال لبنان ما قرره سيدر، فقد كان واضحاً أن فرنسا تبدي اهتماماً لافتاً بترسيم الحدود، بل وهناك معلومات تؤكد بأن باريس قد تربط ما بين إنجاز هذا الملف والوصول به إلى تسوية، وبين تطبيق مؤتمر سيدر والحصول على المساعدات.

والمبادرة الفرنسية ليست بعيدة عن مبادرة خط هوف الأميركية، بينما باسيل يحاول أن يبحث مع الروس كيفية تحسين شروط لبنان، كي لا يظهر وكأنه عارض المبادرة ومن ثم عاد وسار بها.

العامل الإيراني

وليس بعيداً عن هذه الملفات كلها، لا بد من السؤال عن موقف حزب الله وإيران من هذه المحاولات أو المبادرات. وهنا يعود الدور الأساسي للضغوط الأميركية على إيران والعقوبات على حزب الله، والتي قد تكون عاملاً مساعداً في تليين الموقف الإيراني، لا سيما إذا ما دخلت روسيا على الخط، والتي ستمثل خطوة إيجابية بالنسبة إلى طهران، الرافضة لتقديم أي تنازل مباشر لإسرائيل أو أميركا. فروسيا تدخل إلى المبادرة مستندة إلى نجاحها في العديد من المهام بين النظام السوري وإسرائيل. وهناك من يذهب أبعد من ذلك، معتبراً أن الجيش السوري لم يكن ليلجأ إلى تسليم الرفات من دون موافقة إيرانية على نحو أو آخر. وهذه قد تستخدمها طهران على سبيل الإيحاء برسالة غير مباشرة لتخفيف الضغوط الأميركية، وتوفير طريق للإلتفاف على العقوبات، أو فتح باب موارب للتفاوض.

لا ضرورة هنا للتفاؤل المستعجل، فأي خلل قد تتعرّض له دقة هذه التوازنات، قد يؤدي إلى انفجار.