لم يَفُتْ الكاميرات، يوم الدفن، تردد ليا رابين؛ قبل أن تصافح ببرودة شديدة زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو. بعدها ستقول أرملة رئيس الوزراء إسحاق رابين، للمذيع الأميركي تيد كوبل، إنها تفضل مصافحة ياسر عرفات على مصافحة نتنياهو.

اغتيل رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، في ختام مظاهرة نظمها اليسار الإسرائيلي دعماً للسلام، الذي مضت على تتويجه بالاتفاق الشهير الموقّع في حديقة البيت الأبيض في عهد الرئيس بيل كلينتون وبالشراكة مع ياسر عرفات، سنتان ونيف.

أعداء السلام كثر. هذا ما أشار إليه رابين في خطابه الأخير، مؤكداً وجود شركاء للسلام، قبل أن ترديه رصاصات اليميني يغال عمير. الاغتيال كان الشاهد الثاني على عمق الانقسام الفكري والسياسي والهويّاتي داخل المجتمع الإسرائيلي بعد جريمة الطبيب الإسرائيلي باروخ غولدشتاين، الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي بحق مصلي الفجر في شهر رمضان المصادف 25 فبراير (شباط) 1994.

كان نتنياهو أحد رموز اليمين الذي غازل أناساً مثل غولدشتاين، وتصدّر المظاهرات التي اغتالت رابين معنوياً قبل اغتياله جسدياً. في بعض هذه المظاهرات المضادة للسلام ورمزه الأبرز؛ رابين، حُملت نعوش بشكل ملبس؛ بين أن تكون كناية عن التحذير من موت الصهيونية، أو دعوة مضمرة لقتل رابين، كما حدث لاحقاً.

من خلال هذا السياق الدقيق لتشكل ظاهرة نتنياهو، الذي سيفوز بالانتخابات الأولى بعد اغتيال رابين عام 1996، يكون نتنياهو وليد الحرب الأهلية الإسرائيلية وأزمة هوية إسرائيل، في لحظة كونية شكلت البدايات العميقة للانفجار الهويّاتي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واستفحال النيوليبرالية الثاتشرية والريغانية مع إفرازاتها الاقتصادية والاجتماعية المأزومة، وانتشار ثقافات التدين والسحر والشعوذة والهويات الفرعية وانتشار الوجبات الثقافية السريعة ككتاب صامويل هنتنغتون عن «صراع الحضارات» أو كتاب فرنسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ»!!

في مقابل شركاء السلام، كان هناك شركاء الصراع الهويّاتي، الذين يلتقون على إدامة الصراع ويتحالفون على توفير أسبابه. كان السلام مخيفاً، والحاجة للأعداء حاسمة لتوكيد هوية الذات. في مقابل غولدشتاين كانت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تصوتان بالعمليات الانتحارية ضد رابين وعرفات معاً! وكان السلام مخيفاً بمعنى الصراعات الإقليمية ومصالح الدول.

وجدت إيران في حقل الهوية مادة خصبة للاستثمار وإدامة الصراع، ووجدت فرصة لتغذية الحرب الأهلية الفكرية والثقافية الإسرائيلية، بتوفير الأسباب لإنهاء معسكر السلام.

يمكن التأريخ للعمليات الانتحارية التي انتهجتها «حماس»، بعودة الشاب يحيى عياش إلى الضفة من منفاه القصير في مرج الزهور، في لبنان، مبعداً مع قادة من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ليتسلم قيادة «كتائب عز الدين القسام» في الضفة. بحسب كتاب مثير صدر مؤخراً لأبرز كتّاب التحقيقات الأمنية في الصحافة الإسرائيلية والدولية رونين بيرغمان، فإن عماد مغنية جنّد عياش ودربه على العمليات الانتحارية التي يعدّ مغنية مهندسها الأبرز منذ مطلع الثمانينات، في ظل غيابها بوصفها «تقنية» عن بقية التنظيمات المسلحة. شكلت جريمة غولدشتاين «السند الأخلاقي» لعياش ليفتتح عصراً جديداً من العمليات الانتحارية التي استهدفت كل شيء! في المقابل؛ أقنعت هذه العمليات حاخامات يهوداً بإصدار فتاوى بضرورة قتل رابين دفاعاً عن الصهيونية، وأقنعت يغال عمير بقتله. إنها حلقة مفرغة من تحالف التطرف، تبرر في داخلها أفعال كل طرف أفعال الآخر.

وصل نتنياهو إلى رئاسة الحكومة عام 1996 على جثة رابين وجثة مشروع السلام وجثث عشرات الإسرائيليين الذين أردتهم عمليات عياش، وجثث مئات الفلسطينيين الذين أرداهم مستوطنون. وفي كل هذه الرحلة صوتت إيران لصالح نتنياهو بالسيارات المفخخة، لأن خوفها من مشروع السلام ونجاحه، واحتمال تمدده باتجاه سوريا ولبنان، كان أكبر من خوفها من تبعات وصول اليمين المتطرف!

لكن الزمن دوار!

نتنياهو الذي كان مرشح إيران في عام 1996 صار كابوسها في انتخابات 2019، بسبب الحرب المباشرة التي يقودها ضدها في سوريا. ستثور ثائرة إيران والسائرين في فلكها إذا ما أشرنا إلى تقاطع المصالح بين نتنياهو اليوم، وعدد كبير من دول المنطقة؛ تحديداً بسبب السياسات الإيرانية العدوانية تجاه هذه الدول. وهو تقاطع لا يلغي التنافر الحاد مع سياسات نتنياهو في ملفات أخرى؛ أبرزها الملف الفلسطيني. سيثورون باعتبار أن نتنياهو عدو، وسيتناسون البراغماتية العقائدية التي اعتمدوها حين صوتوا له وأنهوا مرتكزات مشروع السلام وغذوا الانقلاب السياسي والأخلاقي في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني؛ من غولدشتاين عام 1994، إلى انقلاب «حماس» في

غزة عام 2007.

تحصد إيران اليوم ما زرعت، وفي لحظة استنزاف كل عائدات البراغماتية العقائدية.

عبر «إيران غيت» علمنا عن سر التعاملات التجارية المسلحة بين طهران وتل أبيب خلال الحرب الإيرانية - العراقية، وفي العراق وأفغانستان راقبنا التعاون الأميركي - الإيراني، وفي الحرب ضد «داعش» شاهدنا قاسم سليماني على الأرض في العراق وسوريا يتقاسم مع الطيران الأميركي مهمة طرد التنظيم المتطرف. الثابت الوحيد كان دوماً تسديد اللكمات للدول العربية ومصالحها والتلاعب بمجتمعاتها. اليوم يحكم إسرائيل من لا تريده طهران... ستكون صعبة دعوة الخصوم إلى ألا يستثمروا في اللحظة... في الحد الأدنى ألا يجلسوا ويتفرجوا على موسم حصاد ما زرعته إيران لهم وللمنطقة.