الدول الكبرى تتعاطى بدبلوماسية الحد الأدنى مع أحداث الجزائر والسودان.
 

تولى الجيشان، السوداني والجزائري، زمام الأمور في بلديهما، أو هما يسعيان بشق النفس إلى ذلك. الأمر يشبه الانقلاب، لكنه ليس كذلك، على الأقل في عرف الحراك الشعبي المتواصل في البلدين.

يشتبه العامة بصفقات تحت الطاولة أخرجت العسكر إلى الواجهة وسحبت وجوه النظامين إلى خلف الكواليس. لا تأكيدات صارمة حول مصير الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وشقيقيه وبقية الحاشية، والأمر نفسه ينطبق على الرئيس عمر البشير ومحيطه ودوائره القريبة.

في الجزائر كما في السودان، لم يتعامل “الانقلابيون” مع النظام “المخلوع” على النحو التقليدي الذي تمارسه الانقلابات في أدائها السوقي أو الثوري. بدا وكأن أوامر “البلاغ رقم واحد” صدرت عن الرؤساء المخلوعين، وأن قادة الجيش، المرتبكين في الجزائر، والحائرين في السودان، ينفذون خطة ومناورة كتلك التي تدرّس في المعاهد العسكرية الكبرى.

وسواء كانت الشكوك مبررة أو فيها افتراءات تنتجها نظريات المؤامرة، فإن الشارع في البلدين، بتياراته وأحزابه وهيئاته وقضاته و”كنداكاته”، لم يخضع للأمر الواقع، ولا يبدو أنه سيقبل باختصار ما هو تاريخي في حراكه بترميم شكلي لتصدعات أصابت الواجهة السياسية دون اجتثاث ما هو أعمق داخل نظاميْ البلدين.

في الموجات الأولى لـ”الربيع العربي” التي شهدتها تونس ومصر عام 2011، كانت الحدود مرسومة بدقة “الشعب يريد إسقاط النظام”. جرت المبارزة بين “الشعب” و”الحكام” كما في الروايات التاريخية البسيطة. لاحقا برزت حدود واضحة أخرى. الجيش والإسلاميون في مصر. البورقيبية واليسار من جهة والإسلاميون في تونس.

لا شيء من هذا يشبه ما يجري في السودان والجزائر. خرج الإسلام السياسي من حلبة الفعل والقيادة لحراك الناس في البلدين. بات منكسرا مهزوما في السودان ومتواريا متخفيا في الجزائر. قيادات إسلامية طُردت من قبل المتظاهرين في الجزائر، فيما هتافات الشوارع في السودان تحمّل الإسلام السياسي مسؤولية قيام نظام استبداد وفساد حكم البلاد باسم الدين.

يلعب الجيش في الجزائر والسودان دور المنقذ. في ثنايا تلك الوظيفة سعي لمواراة دور الجيشين ومسؤوليتهما في إنتاج النظامين اللذين حكما الجزائر والخرطوم. أحكم الجيش الوطني في الجزائر قبضته على الجزائر منذ الاستقلال عام 1962. هو المنتج للرؤساء الذين حكموا البلاد مذاك. وإذا ما قام بالضغط لإجبار عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة، فإن ذلك، في زمن ما بعد الربيع العربي، لم يعد كافيا لإقفال الملف وإخلاء الشوارع والعودة إلى حياة عادية طبيعية في البلاد.

ينسحب أمر تلك المسؤولية على الجيش في تاريخ السودان الحديث منذ الاستقلال عام 1956. من ذلك الجيش خرجت الانقلابات العسكرية ابتداء من ذلك الذي قاده إبراهيم عبود عام 1958 وصولاً إلى ذلك الذي قاده عمر البشير عام 1989. 11 انقلاباً ومحاولة انقلاب تفصح عن نزوع دائم للجيش للانقلاب على نفسه أو على أي حكم مدني عابر.

على هذا لا يأمن الناس في جزائر وسودان هذه الأيام هذا “المنقذ” وقد خبروه في تاريخهما مكشرا عن أنيابه. بدا أن الذاكرة البعيدة كما تلك القريبة تمنع المحتجين من مغادرة الشوارع قبل أن يحصل هذا التغيير الذي زحفوا من أجله. في البال أن حراك الناس هو من أوقف مهزلة “الرئيس مدى الحياة” في البلدين، فاستقال بوتفليقة وتنحى البشير. وهذا الحراك نفسه هو من أجبر الجيشين على التحرك، ولو كان هناك سبيل آخر غير ذلك لربما فعلاه.

حين أطل عوض بن عوف (قبل أن يتنحى هو الآخر) منصّبا نفسه رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي في السودان، أطلق سيلاً من الوعود البراقة متوعداً بإجراءات أمنية مشددة فارضا حالة الطوارئ ومنع التجول. رحل بن عوف، وخرجت النسخة الجديد بقيادة عبدالفتاح البرهان تؤكد أن لا نية أبدا لاستخدام العنف ضد المعتصمين. تلك الروحية التي فرضت ذاتها في السودان هي التي يتقيد بها العسكر في الجزائر، على الرغم من ارتباك أمني شاب أداء الشرطة ومنابر الأمن في هذا البلد في الأيام الأخيرة.

ربما تقادمت تقليعة العنف الدموي الذي تمارسه الأذرع الضاربة للسلطة ضد المتظاهرين. يفقد الجيشان، في الجزائر والسودان، “فضيلة” القوة أمام الشعبين، ويرتجلان يومياً أداء السياسة وممارسة فنونها. ولئن تبدو الحيرة والحذر عناوين للسلطة في البلدين، فإن أمر ذلك ينسحب على كبرى عواصم العالم في مقاربة الحدثين.

في الشارع الجزائري يروج توجس بنيوي قديم جديد من موقف باريس. تُكال لفرنسا الاتهامات بأنها غرفة العمليات الحقيقية التي تدير أمور البلاد منذ عقود. في الأمر مبالغة مرتبطة بالعلاقة التاريخية الملتبسة بين البلدين، ونهل من حكاية الاستعمار الفرنسي في تحميله مسؤولية علل الجزائر بسبب الاحتلال، وتحميل باريس مسؤولية التواطؤ مع نظام الجزائر بعد اندثار الاحتلال. وعلى قاعدة ذلك التوجس يمكن فهم الموقف الفرنسي الحالي المُبالغ في تبرئة النفس من أي شبهة تدخل في شؤون الجزائر.

تبدو الصورة أكثر وضوحا في شأن السودان. لم يعد العالم يمسك بالمفاتيح التي كانت تفتح أبواب السودان: نظام، معارضة، فصائل مسلحة، شمال، جنوب، ميليشيات، المحكمة الجنائية الدولية…إلخ. عادت واشنطن البشير ووضعت نظامه على لائحة الإرهاب. سقط البشير دون أن يكون في جعبتها خطة بديلة.

العالم بأثره يتعاطى بدبلوماسية الحد الأدنى في الجزائر والسودان. البلدان المعنية تؤيد إجراءات المجلس العسكري في السودان وتعتبر أن مصير الجزائر يحدده الجزائريون دون أي تدخل خارجي. تحتشد لغة الدبلوماسية بجرعات عالية من النفاق وعدم اليقين، على نحو يؤشر أن النظام العالمي المتصدّع والذي يسعى للتشكل، يقف مصعوقا أمام حراك داهم لم ترصد أجهزة المخابرات الكبرى أنه سيُسقط رأسين حكما البلدين لعقود.

لا يستطيع العالم أن يحتمل الفوضى داخل دولتين من الأكبر مساحة في المنطقة. وليس من مصلحة هذا العالم أن تطول فترة عدم اليقين في الجزائر والسودان، فذلك يهدد ببروز مطالب فرعية من داخل المطالب الوطنية، بما ينذر بتفتت يهدد وحدة البلدين.

لا تستطيع الدول الكبرى أن تتبارز داخل عالم لا تمسك بخرائطه. وللمفارقة الكبرى، يكاد موقف موسكو وبكين وواشنطن وباريس.. الخ أن يكون واحداً، وإن اختلفت مفردات القول والأداء، لمواكبة أزمة الجزائر والسودان للوصول إلى سكك الخلاص.

لا تعني سكك الخلاص بالضرورة الاهتداء إلى الحل النهائي الذي يرضي الجزائريين والسودانيين، سكك الخلاص هي تلك التي على أساسها يضع العالم البلدين داخل القواعد المتعارف عليها والتي يمكن التعامل معها. فهذا العالم لا يحب هذه الثورات التي لا تشبه الربيع العربي.