«من علائم الجنون الأكيد تكرار الأمور بتفاصيلها وانتظار نتائج مختلفة!» (ألبرت أينشتاين)
 

يقول أمين معلوف في كتابه «هويات قاتلة» ما هو أشبه بالحلم السوريالي: «لا أحلم بعالم لا مكان للدين فيه، وإنما بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الإنتماء. بعالم لا يستشعر فيه الإنسان بالحاجة إلى الإنضمام إلى اخوته في الدين، وإن بقي متعلقاً بمعتقداته وعبادته وقيمه الأخلاقية المستلهمة من كتاب مقدس. بعالم لا يُستخدم فيه الدين وشيجة بين اثنيات متناحرة. وإذا كنا نريد حقاً تجنّب أن يستمر هذا الخليط المسموم بتغذية التعصب، والرعب، والحروب الإثنية، يجب التمكن من اشباع الهوية بطريقة أخرى».

إهمال الحالة الشاذة

ما زالت تجول بخاطري جملة قالها لي أستاذي في جراحة زراعة الأعضاء في جامعة ميامي في الولايات المتحدة الأميركية. كنا يومها نناقش قضية أدت إلى وفاة مريض مصاب بقصور كلوي بعد ارتفاع حاد في مادة البوتاسيوم في دمه، ما أدى إلى توقف عضلة القلب عن العمل. معلمي الذي أذكره دائماً بالخير وبفضله على تعليمي، اسمه جوشوا ميلر وهو لا يزال يعمل في الأبحاث حتى اليوم بعد أن أصبح ثمانينياً، يهودي عتيق، ومتدين بعض الشيء. قلت له إن الوفاة حصلت فجأة ومن دون إنذار فقال لي «اسمع يا مصطفى، أنا أؤمن بالقدر، لكن الكارثة تقع حتماً عندما تترك وضعاً شاذاً من دون علاج. عند دخول المريض منذ البارحة كان مستوى البوتاسيوم على أعلى حدود الطبيعي، ونعلم أن مرضه قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في هذه المادة، لماذا لم نُعد فحص الدم للمتابعة؟ أما كنا عالجنا الخطأ قبل وقوع الكارثة؟ سبب الوفاة الأساسي ليس توقف القلب بل هو عدم علاجنا لارتفاع البوتاسيوم».

تزوير اتهام البوسطة

فليعذرني المؤرخون لحروبنا الملعونة! لم تكن بوسطة عين الرمانة سبب اندلاع الحرب الأهلية، ولا كان اغتيال معروف سعد، ولا يمكن اتهام حدث معين في إطلاق شرارة الحرب الأهلية سنة 1975، ولم يكن اغتيال نسيب المتني سبب الحرب سنة 1958 ، ولا الخلاف بين أولاد سبب فتنة 1860، فكلها كانت نتائج وتفاصيل هامشية، وإن أصبحت رمزيات أشبه بالعنزة السوداء، يُشار إليها لتغطية أمراض القطيع.

لا ينقصنا في لبنان عنزة سوداء، فلم أسمع من أي لبناني حتى الآن إلا كلمات الهجاء الشديدة اللهجة لوصف الطائفية، وبعضهم يستعمل الشتائم التقليدية فيقول مثلاً: «يلعن أبو الطائفية، هي أصل البلا!» أو «الله يلعن الغريب اللي فرّقنا» وكل يغني على ليلاه، ولكل منا غريبه الخاص المختلف عن غريب جاره. وفي الوقت نفسه يعرّفك شاتم الطائفية نفسه بطائفته قبل حتى أن يعرّفك باسمه، ويقول لك يا أخي المسلم أو يا أخي المسيحي، وأيضاً يا أخي الشيعي والدرزي والسني، واضعاً الناس في خانات ومعسكرات رغماً عن قناعاتها، ليعني مسبقاً بأنك غير هو! ناسباً إليك أفكاراً ومواقف مسبقة على أساس معسكرك الطائفي! 

لعنة هواجس الطوائف

ظننا تفاؤلاً أن يوم الرابع عشر من آذار كان بداية تحول رعايا الطوائف في لبنان إلى مواطنين لبنانيين! لكن سرعان ما زال سحر ذلك اليوم التاريخي وعدنا إلى نغمة الهواجس الطائفية والإحباط الطائفي والتهميش الطائفي والاستقواء الطائفي والتعسكر المذهبي والهيمنة المذهبية. وحتى من كان منا في الأصل علمانياً، وربما ملحداً، عاد وتقوقع في معسكره الطائفي تحت شعارات لا تمّت إلى المنطق بصلة، وأصبح عشرات الآلاف من حملة شهادات الدكتوراه في العلوم والآداب والاقتصاد، والمتكلمين بلغات عدة والليبراليين إلى أقصى الحدود متى سافروا إلى بلد غربي، متعسكرين في طوائفهم. كل هؤلاء عادوا اليوم لطرح الفرضيات المغرقة في الطائفية «لمعالجة الشعور بالإحباط الطائفي؟!».

إفرحوا يا رواد الحديث عن الإحباط المسيحي فقد لاقاكم من يتحدث عن الإحباط الإسلامي، وبالتحديد الإحباط أو التهميش أو الحرمان السني في السياسة والاقتصاد، والمصيبة أن هؤلاء، كما في الجانب المسيحي، يلومون المعتدلين في طوائفهم ويتهمونهم بتفريطهم بحقوق الطائفة! لمجرد أنهم يتحدثون عن الوطن والمواطنة ويرفضون عسكرة طوائفهم.

تصوروا أن بعض هؤلاء، ومنهم علمانيون ولا يمارسون أي نوع من الشعائر، اعتبر يوماً أن «جبهة النصرة» السورية هي المنقذ والمخلص! كل هذا في ظل تنافس سلبي، ضرب من جهة أخرى القوى السياسية المسيحية فأصبح معيار الشعبية هو المزايدة في الحفاظ على حقوق الطائفة واستعادة حقوقها، وممّن؟! بالتأكيد من الطوائف الأخرى! وهذه اللوثة طالت حتى النخب العلمية بحيث أن أحد زملائي الأطباء الناجحين والمميزين مهنياً قال لي يوماً «نريد أن نستعيد حقوقنا منكم!» وتعذرت عليه الإجابة عندما سألته عن أية حقوق سلبتها أنا شخصياً منه حتى أعيدها له!

الإيحاء من صديقي، والذي وصل إليه من جملة من الخطابات الشعبوية أثنا حملات انتخابية رئاسية، هو أن مجلس الوزراء استولى على جزء من سلطات الرئيس الماروني، فالمعني هو أن رئيس الوزراء السني استول على حقوق المسيحيين!

غريب عجيب هذا المنطق، فالكل يعرف أن استيلاء السنّة المزعوم على حقوقهم لم يترجم لا بحبوحة ولا مشاريع ولا ازدهاراً في المناطق ذات الأكثرية السنيّة، ويكفي أن نرى وضع طرابلس والضنية والمنية وعكار لنرى أن المن والسلوى لم يهبط عليها من جنة السلطة التي سرقوها! العكس هو الصحيح فلم نعد نسمع اليوم كسياسيين إلا اللوم والحنق وحتى التخوين من مواطنين في هذه المناطق يتهموننا بالتفريط بحقوق طائفتهم ومسايرة الآخرين!

وما يزيد في جروح هؤلاء هو الإتهام الدائم بأن السلطات تم الاستيلاء عليها بمساعدة الاحتلال السوري متناسين مأساة طرابلس وتنكيل المخابرات السورية بأهلها ومتناسين سلاح «حزب الله» وتهديده المستمر لحقوق الجميع في السياسة والاستقرار والأمان الاجتماعي.

بغباء حطمنا كل الأحلام التي بنيناها في الرابع عشر من آذار وهدرنا كل الدماء التي بذلها شهداء لم تفرقهم طوائفهم، هذه الدماء التي اعتقدنا أنها كانت ستكفر عن خطايانا الأصلية لنقوم في اليوم الثالث مواطنين فقط دون طوائفنا!

تعود ذكرى نيسان وما زلنا غارقين في الكوابيس نفسها التي تسببت بحروبنا السابقة، وستكون سبباً لحروبنا اللاحقة، وبدل الذهاب إلى علاجها، نمعن في زيادة خطورتها إما بالتجاهل وإما باللامبالاة وكأننا نحن الأغبياء لم نعرف طعم مرارة الحرب، أو أننا نبحث عن بوسطة جديدة نبرر بها فشلنا في علاج أمراضنا؟