في هذه الايام، حيث يزهر الربيع العربي مجدداً ، تخطر في البال فكرة "سطحية" تداولها جيل النكبة الإشتراكية وضلال الحتمية التاريخية، مفادها ان خيار"المجتمع المدني" الذي شاع  في العقود الثلاثة الماضية وإنتشرت هيئاته ومؤسساته كالنار في الهشيم، لم يكن سوى مؤامرة على الاجتماع العربي نجحت في تفريغه من السياسة، وحرمانه من أي ثقافة أو تجربة سياسية، وفي ترسيخ الاعتقاد بأن العمل السياسي معيبٌ ومشبوه، وبأن تشكيل حزب سياسي جديد، او الانتظام في حزب سياسي قديم هو سلوك ليس له صلة بروح العصر.

في المشهد الجزائري او السوداني المثير للأمل، يبدو الفراغ السياسي ظاهرة مخيفة، تهدد الموسم الجديد من الربيع العربي، وتنذر بأن التغيير الذي ينشده الجيل الجديد يمكن ان يستغرق وقتاً طويلاً جداً، ويمكن ان يستنزف جهداً كبيراً جداً، ولن يخلو طبعا من الكثير من الدماء والدموع، قبل ان ينزاح عن كاهل الشباب العربي عبء الإستبداد الذي يرفض تقصير المسافة الى الأبد.


بلوغ هذا الهدف المرجو ما زال يقع في دائرة الشك، إن لم يكن المستحيل. وليس من المستبعد حتى الآن ان يعيد التاريخ نفسه، ويؤدي الى حروب أهلية أخطر وإستبداد سياسي او ديني أخطر.


الجرأة التي يتمتع بها الشباب الجزائري والسوداني، وحتى الليبي الذي يواجه اليوم زحفاً عسكرياً مفضوحاً تنفذه قوى الثورة المضادة، تستحق التقدير فعلاً. فهي لا تصارع فقط القبضة الحديدية للعسكر في البلدان الثلاثة، لكنها أيضا تتحدى السطوة العسكرية التي حطمت الربيع العربي في موجته الاولى لا سيما في مصر وسوريا.. وتعلن أن حكم العسكر الذي يدل في الجوهر على قصور في وعي العرب وثقافتهم وتجربتهم، لم ولن يصبح قدرهم الوحيد وعلامتهم الفارقة، في الوقت الذي تخلصت بقية دول العالم الثالث من أنظمتها العسكرية منذ زمن بعيد.


هذا هو العنوان الابرز الذي أطلقته الموجة الجديدة من الربيع العربي، ورفعه المتظاهرون الجزائريون والسودانيون، والمقاتلون الليبيون، وإلتقطه الشباب المصري وشرع في تداوله، وفي تبنيه لمواجهة فضيحة الحكم العسكري التي أنتهت إليها ثورتهم الرائدة، كما إعتمده ثوار سوريا ومعارضوها غير الاسلاميين طبعا، بوصفه رصيداً إضافياً يزاد على حساب ثورتهم، ويقدم موعد نجاحها في إسقاط النظام العسكري الأسدي الابدي.


لكن هذا الإنجاز السياسي المميز، لموسم الربيع الحالي، لا يجد حتى الآن قوى سياسية تحميه وتحوله الى برنامج عمل لتغيير النظام أو حتى إصلاحه، سواء في الجزائر أو السودان أو ليبيا ، وسوريا طبعا. ما زال الجيش في تلك البلدان هو الحزب العلني الوحيد الذي يصنع السياسة، وما زال الدين هو الحزب السري الوحيد الذي يعطل السياسة..وما بينهما تتوزع تشكيلات حزبية معارضة، هي إما بقايا تجارب سياسية بائدة أو مشاريع سياسية إنتهازية تميل تارة نحو العسكر وطوراً نحو رجال الدين، حسب توزع الحصص والادوار.


صحيح ان الموجة الاولى من الربيع العربي قدمت في بداياتها بعض المظاهر السياسية اللافتة، مثل منصة الخطابة في ميدان التحرير في القاهرة او منتديات وتنسيقيات المعارضة السورية، لكنها لم تصل إلى حد الانتظام في تشكيل سياسي، يعبر عن هوية الثوار وقياداتهم، التي لم تتبلور يوماً، وتفاهماتهم التي ليس لها أثر حتى الآن في صيغة وثائق او محاضر أو أوراق عمل تحفظ على الاقل تاريخ تلك الحقبة ويومياتها.. وتوضح ما هو شائع عن ان الثوار إكتفوا في تلك الفترة بوجودهم اليومي في الميادين والساحات من دون أن تكون لديهم فكرة واضحة عما سيحصل في اليوم التالي.


في الجزائر والسودان، تتكرر الظاهرة نفسها، وتتجدد الممارسة ذاتها. الشبان في منتهى الشجاعة، الشابات في منتهى الحماسة، المشهد بكامله يعلن عن حياة جديدة للبلدين معا، ولسواهما الكثير من البلدان العربية. لكن المحصلة حتى الان متواضعة جدا: الاطاحة برئيس شبه ميت ليس عملاً خارقاً ، والتخلص من رئيس فاشل ليس عملاً جباراً.. أما التوجه الى الجيش بالنداء من أجل الحكم المؤقت او من أجل إدارة المرحلة الانتقالية، فهو دليل على ان الشارع في البلدين ما زال مجرد شارع  يسوده الصخب الذي يؤجل التفكير او يعجز عنه، وهو بالتالي لا يصنع السياسة ولا يساهم حتى في صياغتها.


في البلدين، ظهرت حتى الان أسماء لشخصيات او هيئات نقابية او اتحادات نسائية او مؤسسات ثقافية مؤثرة. لكن ، كان يتوقع ان تكون العبر المستخلصة من التجارب المصرية والليبية واليمنية المريرة حاضرة في الاذهان، وفي البرامج. ما تحقق حتى الآن عابر، يمكن ان ينقض عليه الجيش بسهولة شديدة، كما يمكن ان يقتنصه الاسلاميون في أي لحظة. والأمل الوحيد لنجاح الموجة الجديدة من الربيع، هو ان يتحول الموقف الشعبي المناهض لحكم العسكر الى مادة للصراع داخل المؤسسة العسكرية نفسها، بين كبار الضباط الذين حكموا البلدين وقادوهما الى حافة الهاوية، وما زالوا يتنافسون على الإرث المدمَّر..وأن تلزم قوى الاسلام السياسي الصمت والحياد.


حتى الآن يمكن الحديث فقط عن بوادر حراك شعبي، لا عن ثورة أو إنتفاضة، راكمت الخبرات وإستفادت من الدروس، ولا تعتبر أن سقوط بوتفليقة والبشير يعادل إسقاط بن علي ومبارك والقذافي، او يكفي لإبعاد  خطر حفتر.