من الظلم القبولُ بأن يصبح أحد ضباط الجيوش والقوات المسلحة عامة، والعربية خاصة، رئيسا لجمهورية أو حكومة أو وزارة أو مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيوش.
 

بمناسبة الأنباء المثيرة الواردة توّا من السودان، وخصوصا نبأَ الانقلاب الذي قام به أقربُ رفاق الرئيس عمر حسن البشير إليه، لا بد لنا هنا من تذكير شعوبنا التي تقبل وتسكت وتصبر على حكم ضبّاط الجيوش بما جرَّه عليها سكوتُها وصبرها، سابقا وحاضرا ومستقبلا، من كوارث وزلازل دفعت وتدفع وستظل تدفع أثمانها الباهظة زمنا ليس بالقصير.

فمن الظلم القبولُ بأن يصبح واحدٌ من ضباط الجيوش والقوات المسلحة عامة، والعربية خاصة، رئيسا لجمهورية أو حكومة أو وزارة أو مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيوش.

وذلك لأن واقع ضباط الجيوش في العالم يُخبرنا بأنهم، بالمطلق، يقضون ثلث أعمارهم في مدارس العلوم العسكرية وجامعاتها ومدارس أركانها، منقطعين لدراسة خطط القتال ومواصفات السلاح واستخداماته المتنوعة المتعددة. وبعد تخرجهم يقضون الباقي من أعمارهم في المعسكرات أو المناورات، أو الحروب، والتي لا تكون، غالبا، إلا بعيدة عن المدن وحياتها ومعطياتها، ثم ينفقون الباقي من أيامهم ولياليهم غارقين في تفاصيل العمل العسكري اليومي وضوابطه وأصوله، ومنغمسين، تماما، في الطاعة لأصحاب الرتب الأعلى، إلى حد العبودية، مهما كانت الظروف.

والضابط من هؤلاء يكون، في كثير من الأحيان، مكتفيا بما اكتسبه من علوم عسكرية وبرع وتخصص فيه. أما خلافُ ذلك فليست له لديه أهمية ولا لزوم.

ومن النادر جدا أن تجد منهم من يقتطع من وقته بعضا لقراءة كتاب أو مراجعة مكتبة أو انشغال بدراسات علمية وأكاديمية متخصصة، أو حتى مجالسة أحد من العلماء والمفكرين.

ولنا، نحن العراقيين، ربما أكثر من غيرنا من شعوب الدنيا الواسعة، تجارب مريرة مدمرة في هذا الإطار. فمنذ العام 1958 وما تلاه تعوَّد الشعب العراقي على رؤية ضابط جيش أو أمن أو مخابرات وزيرَ تربية أو علوم أو صحة أو زراعة أو ري أو خارجية أو ثقافة أو إعلام أو سياحة، وقد مُنحت له هذه الوزارة المهمة في حياة الأمم تكريما أو مكافأة أو رشوة لشراء ولائه للرئيس الضابط الأعلى الذي جاء بانقلاب عسكري أعانه فيه رفاقه “الضباط الأحرار” الذين أصبح لزاما عليه ترضيتُهم وغضُّ النظر عن تخبطاتهم وأخطائهم، وأحيانا عن اختلاساتهم، بحكم الضرورة.

وتُروى المئاتُ من القصص، بل آلافُها، عن ضحالة هذا الوزير أو ذاك، وعن جهالته وغروره وقراراته وأوامره المضحكة المبكية، وتعاليه على مستشاريه المتخصصين، واعتبار نفسه الأعلم منهم جميعا، والأفهم والأذكى في ما يفعل أو يقول.

والرئيس السوداني عمر البشير ليس الوحيد من الحكام الذين كان سقوطُهم المفاجئ المهين أمرا حتميا، وإن تأخر. فمَتوقَّعة كانت نهايتُه البائسة على أيدي رفاقه الضباط الذين انتقاهم بعناية، وأقام نظامه على أكتافهم منذ عشرين عاما أو يزيد، وتولوا عنه تكميم الأفواه، إرضاء له وحماية لأنفسهم، وأرهبوا له المتأففين، وقمعوا لحسابه الجماهير، وملأوا سجونه بالمعارضين.

وهي نهايةٌ مكررةٌ كانت من نصيب كثيرين جاؤوا قبله من الحكام الطارئين المتطفلين على الشعوب.

والمهم في حكايتنا اليوم أن البشير، حالـُه مثلُ حال جميع الدكتاتوريين الآخرين الذين يصيبهم خرف السلطة وتعميهم النرجسية، وتفقدهم البصر والبصيرة. فهو، إلى ما قبل أيام، ظلَّ مُوقنا بأنه محبوب الجماهير، وبأن الذين يتظاهرون ضده حفنة ضالة من خونة الوطن المأجورين من خارج الحدود.

وقبلَه الراحل معمر القذافي ظل إلى آخر دقيقة يردد نفس العبارات، ويصف المتظاهرين المطالبين بسقوطه بـأنهم جرذان، ومُخدرون بحبوب الهلوسة، ومرسلون من قوى خارجية حاقدة على انتصاراته وإنجازاته التاريخية العالمية الخالدة، وحاسدة لشعبه السعيد.

وقبلَ قبلِه الراحل الآخر صدام حسين الذي ظل، حتى وهو على خشبة الإعدام، يردد أنه الرئيس الشرعي الوحيد لجمهورية العراق، وحبيب شعبه العراقي “العظيم”.

والمشكلة أننا، أبناءَ الشعوب المصابة بلوثة الصبر على القاتل، نشكو دائما من ازدواجية أقوياء العصر، الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين، ونفاقهم، ونتهمهم دائما بأنهم يصنعون لنا أنظمة حكمنا الدكتاتورية، لأهدافهم القريبة والبعيدة، وهي أنظمة مكشوفة ومفضوحة في انتهاك العدالة وحقوق الإنسان التي يزعمون الدفاع عنها، ثم ينقلبون عليها ويسقطونها في أيام، وأحيانا في ساعات، فقط عندما تختلف المصالح وتتغير الحسابات.

ولكننا لا نشكو أنفسنا لأنفسنا عندما نصبر على حاكم قاتل جاهل أحمق إرهابي حرامي العشرات من السنين، ولا نثور عليه إلا عندما يحركنا المحركون، من الخارج، في أغلب الأحيان، ثم يأتي بعده من رفاقه “الضباط الأحرار” الذين ينقلبون عليه فيفعلون بنا ما فعله كبيرُهم في أول عهده بالسلطة، فيعدوننا بالكرامة والعدالة والغذاء والدواء، ويحلفون أغلظ الأيمان على أنهم يحترمون مطالب الجماهير، ومصممون على تحقيقها كاملة غير منقوصة، ولكن بعد فترة انتظار قد تطول وتطول، حتى تبلغ العشرات من السنين، وإلى أن يأتي ضابط آخر ينقلب على رفاقه، ثم يعدنا، هو أيضا، بالكرامة والعدالة والغذاء والدواء، من جديد.

ويظل الوطن خروفا مشويا على موائد اللئام، وتظل الجماهير العريضة تزحف على بطونها لتهتف، بالروح والدم نفديك يا زعيم، ثم تهبّ عن بكرة أبيها لتضرب تماثيله وصُوره بالأحذية فرَحا بيوم النصر المجيد.