في غياب سياسيين كبار، لا خيار آخر غير أن يلعب المجتمع التونسي دوره من أجل تفادي سقوط تونس في فخ تخلف الأحزاب الدينية.
 

لم يحسم الرئيس الباجي قائد السبسي إمكان ترشّحه لولاية جديدة، على الرغم من أنّه بدا ميالا إلى ذلك، أي إلى الامتناع عن الترشح لولاية ثانية. حبذا لو يحسم الأمر ولا يترك أي مجال للشكّ في أنّه سيتقاعد.

أوحى الرئيس التونسي في المؤتمر الذي عقده حزبه (نداء تونس) قبل أيّام بأنّه سيكتفي بولاية رئاسية واحدة آخذا في الاعتبار تقدّمه في السن. تصرّف تصرّف الكبار الذين تعلّموا من تجارب الماضي، بما في ذلك تجربة الحبيب بورقيبة التي أساء إليها تمسّك الرجل بأن يكون رئيسا لمدى الحياة. من الواضح أنّه لا يزال على الباجي قطع الطريق على أيّ مجال للشك بأنّه يرفض البقاء رئيسا لدى انتهاء ولايته هذه السنة. عليه أن يقدم على ذلك، على الرغم من أنّ الإخوان المسلمين الذين تمثلهم حركة النهضة التي يتزعمّها راشد الغنوشي سيحاولون، بكلّ ما لديهم من دهاء، استغلال غياب شخص في وزن الباجي قائد السبسي عن معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني-نوفمبر من هذه السنة، للاستيلاء على رئاسة الجمهورية عبر صندوق الاقتراع.

في هذه الحال، لماذا لا يترك الباجي التونسيين يتحمّلون مسؤولياتهم إنْ في الانتخابات التشريعية المقبلة أو في الانتخابات الرئاسية. هل لا يزال التونسيون بمثابة قاصرين لا يعرفون ما على المحكّ في بلدهم وماذا يعني لهم ولمستقبل أولادهم وصول شخص مثل الغنوشي إلى موقع الرئاسة؟ يفترض في التونسيين امتلاك ما يكفي من الوعي لتفادي السقوط في مخطّط الإخوان المسلمين.

يفترض بهم إبلاغ كلّ من يعنيه الأمر أنّهم بلغوا بالفعل سنّ الرشد، وأنّ في استطاعتهم التمييز بين الغثّ والسمين، بين من يحاول نقل تونس إلى العالم الحضاري وبين من يريد جرّها إلى التخلّف والانتقام من الإنجازات التي كان وراءها الحبيب بورقيبة، خصوصا في ما يخصّ حقوق المرأة وتأسيس دولة يمكن وصفها بأنّها دولة القانون والمؤسسات.

في النهاية، تجاوز قائد السبسي التسعين عاما. هذا السنّ لا يسمح بالسعي إلى ولاية رئاسية جديدة على الرغم من أن الرئيس التونسي ما زال صافي الذهن إلى حدّ كبير، ويتمتّع بكل قواه العقلية. لم تحصل سوى مشكلات صغيرة خلال إدارته جلسات القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في تونس. لم تكن تلك المشكلات المرتبطة بأسماء بعض الزعماء العرب مهمّة، لكنّها كشفت أن للسنّ حقه، وأن على أيّ رئيس دولة أو زعيم سياسي أن يعرف متى يتوجب عليه الانسحاب من على خشبة المسرح.

يبقى أنّ ما يعتبر أهمّ من الإنجازات التي يمكن أن يحققها أحد الزعماء خلال وجوده في السلطة، أن يعرف متى عليه الذهاب إلى منزله. يكشف ذلك أن الرجل الذي حقّق تلك الإنجازات طبيعي من جهة، ويعرف حدوده من جهة أخرى. هذا ما لم يدركه الحبيب بورقيبة الذي سقط في الفخّ الذي نصبته له نساء القصر، وكانت آخرهنّ ابنة أخته سعيدة ساسي، أنّه كان عليه أخذ المبادرة في مرحلة معيّنة. كان عليه الدفع في اتجاه انتخاب شخص عاقل يحلّ مكانه في قصر قرطاج. شخص يمتلك شرعية حقيقية يستطيع بالفعل المحافظة على إرثه. كان هناك كثيرون يستطيعون ملء الفراغ بعدما وضع “المجاهد الأكبر” الأسس لدولة حديثة منفتحة على محيطها وعلى العالم.

لا يبدو ميل الباجي قائد السبسي إلى عدم الترشّح لولاية أخرى بعيدا عن الحدث الجزائري حيث ذهب عبدالعزيز بوتفليقة ضحيّة الحلقة المحيطة به، على رأسها شقيقه سعيد الذي تحوّل إلى الرئيس الفعلي للجزائر منذ أصيب الأخ الأكبر بجلطة في الدماغ في العام 2013. لم يمنع ذلك بوتفليقة من الترشّح لولاية رابعة في العام 2014. بين 2014 واضطراره إلى تقديم استقالته في 2019، قبل أيام قليلة من انتهاء ولايته، كان بوتفليقة مجرّد صورة. تماما كما حصل مع بورقيبة الذي أساء إلى نفسه وإلى تونس، جعل بوتفليقة من فكرة سعيه إلى الحصول على ولاية خامسة مهزلة كان لا بدّ من وضع حدّ لها. هذا ما فعله الجزائريون، وهذا ما فعلته المؤسسة العسكرية التي كشفت أنّها لا تزال حيّة ترزق على الرغم من محاولات بذلتها الحلقة المحيطة ببوتفليقة لاقتلاع أنيابها.

تبدو تونس مقبلة على مرحلة صعبة. تتميّز هذه المرحلة بتعقيدات كثيرة على مستويات مختلفة، بما في ذلك الوضع الإقليمي. ليس واضحا ماذا سيحلّ بالجزائر. كذلك، ليس واضحا إلى أين تتجه ليبيا وذلك على الرغم من اتجاه خليفة حفتر إلى حسم الوضع لمصلحته على حساب الإخوان المسلمين والحركات المشابهة لهم…

الأخطر من ذلك كلّه هو الوضع الداخلي التونسي حيث الاتكال على المجتمع المدني في مقاومة التخلّف الذي تسعى حركة النهضة إلى فرضه. ليس كافيا أن يرتدي الغنوشي ربطة عنق وأن يشارك مطلع السنة الحالية في المنتدى الاقتصادي الدولي في دافوس كي يصبح في الإمكان القول إن شيئا ما تغيّر في سلوك النهضة. لا تزال النهضة الحركة نفسها التي تسعى إلى القضاء على كلّ الفكر التقدّمي والحضاري الذي أتى به بورقيبة. ما زال هاجس النهضة يتمثّل في كيفية الانتقام من نهج الحبيب بورقيبة الذي سعى إلى مصالحة التونسيين مع كلّ ما هو عصري ومنطقي في هذا العالم بعيدا عن أيّ نوع من العقد.

لم يعد سرّا أن الباجي قائد السبسي يسعى إلى تعويم رئيس الوزراء يوسف الشاهد الذي لعب على أكثر من حبل، وعمل على شقّ حزب نداء تونس وكانت له علاقات من تحت الطاولة مع زعماء النهضة. هل يمكن الرهان على الشاهد بغية المحافظة على جبهة متراصة تقف في وجه حركة النهضة وسعيها إلى الاستيلاء على السلطة؟ ما يلعب لمصلحة الشاهد، بغض النظر عن المناورات التي قام بها في الأشهر الماضية، أنّه يمتلك فكرة عمّا يدور في العالم، خصوصا في مجال الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، ولكن يبقى سؤال هل يمكن أن يكون يوسف الشاهد رجل المرحلة المقبلة بغطاء من النهضة ولكن من دون أن يكون مجرّد أداة لها؟

لا مصلحة لتونس في أن يترشّح الباجي قائد السبسي، لكن الإيحاء برغبته في عدم الترشّح، إضافة إلى صعوبة توريثه لنجله حافظ، يدلان على شيء واحد. هذا الشيء هو أنّ تونس تعاني من نقص في السياسيين الحقيقيين. هذا نقص يمكن أن يستفيد منه راشد الغنوشي إلى حد كبير في غياب تحرّك للمجتمع المدني، برجاله ونسائه ونقاباته، يؤكّد أن تونس ما زالت متمسّكة بالقوانين العصرية التي أتى بها بورقيبة وطوّرها الباجي قائد السبسي. في غياب سياسيين كبار، لا خيار آخر غير أن يلعب المجتمع التونسي دوره من أجل تفادي سقوط تونس في فخّ تخلف الأحزاب الدينية لا أكثر ولا أقلّ…