لا أحد كان يتوقع أبداً أن يصادف هذا العدد الكبير من الإرهابيين والإرهابيات مجتمعين في مكان واحد، فمجرّد أن تلمحهم حتى تبدأ البحث بعينيك في الأرجاء عن ضحيتهم أو هدفهم، وتتساءل بخوف كيف يستطيع كلّ هؤلاء إخفاء أحزمتهم الناسفة بين الجموع، وعبواتهم الجاهزة للتفجير، وأين ركنوا سياراتهم المفخّخة؟... لكن ما أن فُتحت أبواب المسرح حتى تدفّقوا إلى كراسيهم واختلطوا بالإعلاميين والنوّاب والحضور القادم من مختلف مناطق لبنان لمشاهدة مجموعة أخرى من الإرهابيين المتمركزين على الخشبة.

بين أهل طرابلس الحاجزين على الكراسي الحمراء، وأهل طرابلس المحتجزين في تفاصيل الديكور، كان الجميع يتوقّع خطاباً دينياً متطرّفاً، ودعوى إلى الجهاد، وإرهاباً فكرياً وأيدولوجياً... لكن ما أن بدأت مسرحية «شرّف لعنّا» (كتابة وتأليف بلال مواس وعزام حدبا، وإخراج وليد يونس) حتى زالت مخاوفنا، وبدأنا نرتاح أكثر لتواجدنا في عمل طروبلسي يحكي بكوميديا الموقف والكلمة قصص مجتمع صفته إرهابي في الإعلام والصالونات والمحاور، وأمّا واقعه وتفاصيل حياته يمكن أن يرويها ويشعر بها الماروني في زغرتا والشيعي في الهرمل والسنّي في صيدا والأرثوذكسي في بيروت والدرزي في الجبل.

مسرحية طرابلسية كانت لسنوات تجري أحداثها خلف ستارة أسدلها أكثر من طرف للتعتيم على وجعها الحقيقي، وجاء الطرابلسيون ليفتحوا ستارة أخرى على «مسرح المدينة» في الحمرا، لعلّها تلقي الضوء على وجع يختبئ تحت اللحى وفي طيّات حجاب الأمهات وبين أصابع أرجل الأطفال الحافية على زفت التبّانة، وأبي سمرا، والقبّة، والتلّ، وجبل محسن، وباب الرمل، والبحصاص، وساحة النور، وبجانب القلعة ونهر أبو علي.

أبدع بلال مواس بنصّه وأدائه على الخشبة في خنق بعبع اللحية والعباية، وعلى مدى أكثر من ساعتين وبأسلوب متقن جمع بين الارتجال والعفوية والنص المحكم، أضحك الجمهور بكوميديا سوداء وبيضاء، وبلطشات سياسية مباشرة ومبطّنة، واستعادات جغرافية وتاريخية، وبالرقص والأغاني، حتى فتح باب أوجاع طرابلس على مصراعيه وسمح لشكاوى أهل عاصمة الشمال بالتدفّق من فوق الخشبة لتتشابك مع صرخات أهل لبنان أجمعين.

الديكور بسيط، والممثلون خبرتهم بسيطة، والنص بسيط بلا ادّعاء، لكنّ الرسالة التي حاول المواس ورفاقه إيصالها تزداد تعقيداً كلما لامستها الحقيقة... ويبدأ المشاهد بالتساؤل، هل هؤلاء إرهابيون؟ هل يضحك الإرهابي ويُضحك؟ هل يرقص؟ هل يغنّي؟ هل يمرح ويفرح؟ هل يتفاعل ويحلّل ويناقش ويفكّر، ومن ثم يبدع ليحمل صرخات وتأوّهات ويتجرّأ أن يحوّلها نكات وضحكات؟

كلما رأيت في الإعلام أو سمعت من الناس تهم الإرهاب الجاهزة حفر وتنزيل على بعض أهل طرابلس، أتذكّر أنّ لي في تلك المدينة خالة مارونية متزوّجة من طرابلسي ماروني وتعيش بينهم منذ منتصف السبعينات، وانصهرت بهم وبثقافتهم لدرجة أننا كنّا دائماً نحتار في تحديد ما إذا كان أولادها مسيحيين أو مسلمين. أتذكّر أنّ لي صديقة طرابلسية أرثوذكسية تتمتّع بحس فكاهة نادر، تغذّيه دوماً من أخبار ومواقف أصدقائها «الإرهابيين»، وتكاد لا تستشهد سوى بالآيات القرآنية لتثبت وجهات نظرها.

أتذكّر أن موارنة القرى في الشمال تعلّموا اللغة العربية في طرابلس، وأن موارنة الشمال ما زالوا حتى اليوم يتعلّمون في كلّ زيارة إلى طرابلس المعنى الحقيقي لأم الفقير.

أتذكّر أن بعض أهل طرابلس يريدون العودة إلى السلف الصالح، فلا يكشفوا للناس سوى عن أخلاقهم وإنسانيتهم وحبّهم للحياة والعيش مع الآخر مهما اختلف... مصمّمين على أن يبقى صوتهم أعلى من بعض الضالّين عن السلف الصالح.

بَس لو فيها حلاوة الجبن تحكي، لكانت خبّرت الناس قديش طرابلس حلوة وقديش أهلها طيّبين.