انفجرت حرب مكافحة الفساد بين القضاة هذه المرّة. التضارب الذي كانت تعيشه الأجهزة الأمنية اللبنانية قبل سنوات، في عملها على محاربة الإرهاب، يتكرر اليوم أمنياً وقضائياً حول عنوان مكافحة الفساد. إنه صراع بين الأجهزة الأمنية والقضائية، تنتقل ساحته من داخل أقواس المحاكم ووالقصور العدلية، إلى وسائل الإعلام. تماماً، كما كان حال التسريبات مع الموقوفين المتهمين بالإرهاب، أو بالتعامل مع المعارضة السورية، حين كان يتم نشر أسمائهم وتفاصيل عمليات توقيفهم، وفيما بعد يتمّ إخلاء سبيلهم.

جهازان متنافسان

يمثّل ملف مكافحة الفساد اليوم، "شمّاعة" لتصفية حسابات سياسية وأمنية وقضائية، بين القوى المختلفة مع بعضها البعض. تارة يتوافق طرفان بوجه طرف ثالث، وتارة أخرى تنقلب التحالفات، حسبما تقتضي المصلحة السياسية وغير السياسية. بدأت المشاهد تبرز أكثر قبل فترة، حين بدأت الأجهزة الأمنية الدخول إلى بعض الدوائر، بذريعة مكافحة الفساد، فاقتحم أحد الأجهزة الأمنية مثلاً مبنى قصر العدل في بيروت للحصول على مستندات تتعلق بملفات فساد، مقابل اقتحام جهاز آخر للنافعة بالذريعة ذاتها. كان الجهازان العاملان على خطّ مكافحة الفساد هذا هما فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وجهاز أمن الدولة.

التنافس بين الجهازين قديم جديد، وفي تجلياته الأخيرة، والتي لا تمحى من ذاكرة اللبنانيين، قضية الممثل زياد عيتاني، الذي أوقفه جهاز أمن الدولة وسرّب التحقيقات معه، والتي تتلخص باتهامه بالعمالة للعدو الإسرائيلي، في المقابل، استكملت شعبة المعلومات التحقيقات بقضية عيتاني ليتبين أن القضية مفبركة، ويتم بعدها إثبات براءته وإطلاق سراحه. وحينها استعر التنافس بين الجهازين، أو على الأقل تجلّى عدم الوئام بينهما. وهذا ما استمر في حرب مكافحة الفساد، بينما كانت هناك دعوات لتوحيد هذه الحملة لتصبح ذات فعالية أكبر، عبر تولي الجهاز القضائي التحقيقات وإعطاء الأذونات في الملاحقات، فتصبح الملاحقات مبنية على إستنابات قضائية، وليس على معلومات أمنية فقط.

عون وجرمانوس 

ومن مكافحة الفساد في الدوائر الرسمية، إلى مكافحة الفساد في الجسم القضائي، والتي تحولت أيضاً إلى مبارزة بين القضاة، فالمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، تنسّق مع شعبة المعلومات لكشف ملفات الفساد ومكافحته، مقابل تنسيق آخر بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس وجهاز أمن الدولة. وكما كل شيء في لبنان، يتم تسييس القضية حيناً، أو تطييفها ومذهبتها حيناً آخر. وفي إطار هذا التنافس، جاء إدعاء القاضي جرمانوس على شعبة المعلومات بجرائم تسريب وتحوير تحقيقات أولية، وتشويه وقائعن واحتجاز أشخاص قيد التوقيف خارج المهل القانونية، وبجرم التمرد على سلطته، كضابطة عدلية تعمل تحت مراقبته. وكلف الشعبة بتسليم الموقوفين لديها والمطلوبين بموجب تحقيقات لدى الشرطة العسكرية واستخبارات الجيش فوراً.

هذا الإدعاء من قبل جرمانوس، يأتي، حسب مصادر متابعة، على خلفية تحقيق "المعلومات" مع أحد المقربين منه، بتهمة تلقي رشى. وهو عنصر في أحد الأجهزة الأمنية. فاعتبر أنه من الواجب محاكمة هذا الشخص في المحكمة العسكرية، وليس لدى المحاكم المدنية، مع الإشارة إلى أن القاضية عون هي التي سطّرت الإستنابة القضائية بحق هذا الشخص، المشتبه به بتلقي رشى، وأشارت لفرع المعلومات بتوقيفه، وهذا ما دفع جرمانوس إلى اعتبار المسألة فيها تجاوز قانوني.

سريعاً تمّت ترجمة إجراء جرمانوس بأنه نوع من تصفية الحسابات السياسية مع شعبة المعلومات، خصوصاً أنها تعتبر الشعبة الأولى التي تخرج عن سياق كامل الأجهزة الأمنية الأخرى، لا سيما إذا ما جرت لبننة الحدث بهذا الملف، في إطار احتساب كل جهاز أمني على طائفة معينة أو على فريق سياسي معين. بينما كل المعلومات تشير إلى أن لا خلفيات سياسية لما أقدم عليه جرمانوس. لكن الأكيد أن هذا النوع من التنافس سيتوالى فصولاً.