الحفل العسكري المهيب الذي جرى في وزارة الدفاع الروسية في موسكو قبل أيام لدى تسليم رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو رفات جندي إسرائيلي حُفظ في سوريا منذ قتل في لبنان قبل 37 عاماً، لا يمكن ان يفسّر فقط برغبة الكرملين في التدخل الانتخابات الإسرائيلية، ولا بمليارات الدولارات التي يودعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأفراد عائلته ومستشاريه في المصارف الاسرائيلية، بمنأى عن أي عقوبات أميركية او دولية.

ثمة لغز محيّر، طرح للمرة الاولى عندما قرر الرئيس الروسي فجأة في خريف العام 2015 ان يزج بالجيش الاحمر في حرب سورية غير مجزية، بالتفاهم والتنسيق المسبق مع إسرائيل، التي كانت حليفته وشريكته ومفتاح سياسته الخارجية. كان السؤال يومها ، ولا يزال هو: ما الذي يجنيه بوتين من ذلك التحالف العميق مع إسرائيل، وما الذي يطمح الى كسبه من تلك الخدمات المجانية التي يقدمها للاسرائيليين على جبهتهم العسكرية مع سوريا؟

لا يمكن ان يكون بوتين من السذاجة، مثل بعض العرب، بحيث يعتقد ان توثيق العلاقة مع إسرائيل يفتح أمامه الابواب المغلقة في واشنطن، ويحميه من العقوبات الاميركية والدولية. فقد حصل العكس تماما في السنوات الاربع الماضية على التدخل العسكري الروسي في سوريا. زاد الحصار الاميركي والاوروبي على روسيا، وكاد الامر يصل الى حافة الحرب مع الاميركيين. وظهر ان تأثير إسرائيل محدود جداً إن لم يكن معدوماً في هذا الصراع العالمي الجديد.

ولا يمكن ان يكون بوتين من البساطة بحيث يظن، كما بعض العرب، بأن هداياه الانتخابية الى نتنياهو يمكن ان ترجح كفته وترفع مجموع مقاعد حزبه في الكنيست الثلاثاء المقبل، وبالتالي تعزز فرص تكليفه برئاسة الحكومة المقبلة. فالجمهور الاسرائيلي لا ينخدع بسهولة، حتى ولو كان فيه نحو مليون ناخب من أصول روسية، والقضاء الاسرائيلي لا يتورط بمثل هذه اللعبة الخطرة، التي تجرده من سيادته وموقعه الخاص داخل الدولة الاسرائيلية.

ما الذي يتوقعه بوتين من نتنياهو ومن إسرائيل مقابل تلك الخدمات الجليلة التي يقدمها الآن، والتي تدفع الى حد الشك في أن بوتين ما كان ليتدخل في سوريا إلا لخدمة المصالح الاسرائيلية، عندما لمس أن إيران يمكن ان تستولي على كل شيء في سوريا، وعندما شعر فعلاً أن سقوط بشار الاسد بات مسألة أسابيع، حسب تقديرات الكرملين المعلنة في تلك الايام.. ثمة من يجزم الآن بأن قرار التدخل الروسي في سوريا كان بطلب وبإلحاح مباشر من نتنياهو بالذات، أكثر مما كان بدعوة عاجلة من قائد فيلق القدس الايراني الجنرال قاسم سليماني، على ما هو شائع.  

الرد على هذا السؤال – اللغز، لا يكمن إختصاره في تجنيد القوات الروسية في سوريا للعثور على رفات الجندي الاسرائيلي، أو في ذلك التكريم الرسمي الذي حظي به ذاك الرفات وكأنه يعود لأحد أبطال الحرب الروس، وبما يفوق ما يمكن أن تحظى به جثث قتلى الجيش الاحمر نفسه.. ثمة ما هو عصي على الفهم، وحتى على التخيل، في ذلك الحفل المهيب.  

ما يربط بين بوتين ونتنياهو ، بين روسيا وإسرائيل اليوم، هو أعمق من أن يأخذ في الحسبان الحرج الذي قد تشعر به طهران، جراء التنقيب عن جثة إسرائيلية في "أراضيها السورية"، وتسليمها من دون صفقة او مبادلة مع أصحابها.. وهو أقوى من أن يأخذ في الاعتبار خطاب النظام السوري المبني على خدعة قديمة لم تمر يوماً إلا على حلفائه المخلصين، ممن ينكرون تاريخه المناهض لكل أنواع الثورات والمقاومات التي سجلت على مدى نصف قرن مضى.

الرفات الاسرائيلي مجرد علامة جديدة على ولادة ذلك الحلف الاستراتيجي- بكل ما للكلمة من معنى- الذي بات يربط بين روسيا وإسرائيل.