قد تكون العرفاتية التي كان يرثيها مشعل غمزا من قناة القيادة الفلسطينية الحالية (فتح وحماس). لكنها قد تعبر عن وجع حمساوي، وعن حاجة من داخل حماس لتعويم العرفاتية دستورا ومنهجا.
 

لا نعرف ما الذي أيقظ منابر الإعلام الاجتماعي على تصريحات لخالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، صدرت في مايو 2018، يعيد فيها الاعتبار للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ويعترف به قائداً مناضلا أجاد الإمساك بوطنية عالية بالسياسة والميدان. أسقط مشعل، حينها، خطابا كئيبا شنّته حماس منذ قيامها ضد العرفاتية. في ثنايا القول ما كان يعكس قلق مشعل نفسه آنذاك من شأن يُدبر بالشراكة مع حماس نفسها، لاسيما هذه الأيام، لوأد فكرة “الدولة الفلسطينية المستقلة”.

لم تعدْ المصالحة الفلسطينية مطلوبةً. يتموضع كافة الأطراف في الداخل كما في المحيطَيْن، العربي والإقليمي، حول حقيقة أن قطاع غزة بات حالة منفصلة نهائيا عن الضفة الغربية. يكتشف الفلسطينيون أن فشل محاولات المصالحة بين حركتيْ فتح وحماس، وبين الضفة والقطاع، ليس أمرا إجرائيا يمكن تجاوزه من خلال تطوير مضامين الاتفاقيات، بل إن الانقسام بات حالة بنيوية تؤسس فتح وحماس عليها راهنهما وأجنداتهما المقبلة. يكفي تأمل موقف العرب والأوروبيين والأميركيين، وطبعا الإسرائيليين، للتأكد فعلياً من أن المصالحة الفلسطينية صارت خارج كل الحسابات.

لم يعدْ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يواري عزماً إسرائيليا على دفن تلك اللحمة بين قطاع غزة والضفة الغربية اللذين يشكلان قاعدتي الدولة الفلسطينية المستقلة المتوخاة. يجاهر نتنياهو بأنه يشرّع الأبواب للمال القطري باتجاه حركة حماس بهدف زيادة مسافات الفراق بين جناحي “دولة فلسطين”. يعتبر ذلك الإعلام حجّة شعبية تعينه في الغرف من الكتلة الإسرائيلية المصوّتة قبل أيام على إجراء الانتخابات التشريعية. وفي ذلك أن إسرائيل تتعامل مع كيانات فلسطينية (كيانان حتى الآن)، وأن السلطة الفلسطينية (ومن ورائها منظمة التحرير الفلسطينية) هي جزء من كل، وهي جزء يجري تهميشه في واشنطن وتل أبيب وربما عواصم أخرى، لصالح تعويم الأمر الواقع في قطاع غزة بقيادة حماس.

باتت وحدة الضفة والقطاع عاملا مُربكاً لواقع حال فرض نفسه منذ الانقسام الدموي الذي نزع غزة من سيطرة حركة فتح صيف عام 2007. كانت السلطة وفتح قد وصفتا الأمر بأنه “انقلاب”، فيما وصفته حماس بأنه “حسم”. تجاوزت السنون تلك الأوصاف ومدى اتساقها أو تضادها مع مفاهيم الشرعيات، المحلية والعربية والدولية، وبات الأمر الواقع هو الحقيقة الشرعية الوحيدة التي تتعامل معها كافة المنابر المعنية القريبة والبعيدة.

وفي مفارقات الأمر أن أمر التفاوض متوقف بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وأن أمر التفاوض لم يتوقف بتاتاً، وربما بشكل يومي بين إسرائيل وحماس. لا مفاوضات بين إسرائيل والسلطة، على الرغم من أن متون اتفاقية أوسلو ووثائق منظمة التحرير وخطاب حركة فتح بالذات معطوفاً على الموقف الرسمي للنظام السياسي العربي يدعو إلى تسوية سلمية للصراع.

لا مفاوضات بين إسرائيل والسلطة على الرغم من أن لا صراع عسكريا بين الفريقين إلا من عمليات تتسم بالفردية تنفذ بين الفينة والفينة على النحو الذي يقدم العنف بصفته حالة استثنائية تشذ عن قاعدة السلم والهدوء السائدة في توجهات فتح وإستراتيجياتها. لا مفاوضات على قاعدة الهدوء بين الطرفين، لكن المفاوضات جارية على قدم وساق بين إسرائيل وقطاع غزة على قاعدة المواجهة.

تتعامل إسرائيل مع حركة حماس بصفتها شريكا. قبل أسابيع سارعت حكومة نتنياهو إلى وصف القصف الصاروخي الذي أصاب تل أبيب بأنه “خطأ تقني غير مقصود”. يغرف نتنياهو من الحدث بالجُرع التي تخدم حملته الانتخابية، وتعظّم خطاب المظلومية التقليدي حول هاجس الأمن المسوّق دفاعاً عن “دولة اليهود”.

لا تريد إسرائيل في هذه المرحلة أن تخوض حرباً كبرى في قطاع غزة. لا أجندات إسرائيلية داخلية تحتاج إلى ذلك، ولا أجندات دولية تدفع باتجاه ذلك. وحين يُطلق قطاع غزة دفعات نارية جديدة لا تندرج ضمن تصنيفات “الخطأ التقني”، تنبسط طاولة مفاوضات بين إسرائيل وحماس. تناقش إسرائيل مسائل تتعلق بتخفيف الحصار وإنعاش التجارة وتحسين إنتاج الكهرباء وتوسيع مساحة ما هو مسموح استغلاله من المياه الإقليمية للقطاع.

والحال أن قطاع غزة صار أولوية في ما تسرّب عن الخطة الأميركية التي يعدّها فريق صهر الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر. فحين تحدث الأخير عن الوجه الاقتصادي لـ”صفقة القرن” الشهيرة، تحدث عن قطاع غزة مثالاً دون أن يستعين بأمثلة أخرى.

تمد إسرائيل مع حماس سكّة الوصول إلى هدنة طويلة الأمد تقرّ فيها حماس بالوضع الحدودي الراهن، وصولاً إلى الإقرار ضمناً بالحدود التي تناولتها القرارات الدولية (المطيحة بفلسطين التاريخية) والتي نصّت عليها روحية اتفاقات أوسلو والتي تسعى المبادرة التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002 إلى جعلها واقعية لإنهاء الصراع.

لا تريد إسرائيل دولة فلسطينية مستقلة، ولا تريد حماس ذلك ولم تشِ أدبياتها بأنها تقبل التقاطع مع ما تدعو إليه منظمة التحرير منذ عقود. لا تقبل إسرائيل بخيار الدولة الواحدة، وهو أمر لم تلمح إليه حماس ولو تهديدا على منوال ما يصدر عن أوساط في الضفة الغربية تطالب بإسقاط حلّ الدولتين لصالح خيار الدولة الواحدة للإسرائيليين والفلسطينيين.

وعلى هذا تعتبر إسرائيل أن حماس شريكاً حقيقيا بالإمكان أن تتوصل معها إلى تفاهمات لا يراد لها أن تكون حلا نهائيا، لكنها تكرس أمرا واقعا تتم المحافظة من خلاله على ستاتيكو تحت السيطرة لا يشكل تهديدا أمنياً مقلقا لإسرائيل، ويقطع أي أمل بتنامي مصلحة في القطاع تحتاج إلى إعادة الوصل مع الضفة الغربية.

وعلى هذا أيضاً تعمل القاهرة على حماية أمنها الإستراتيجي من خلال الإمساك بالقطاع والإشراف على أي تطور يتعلق بالأمن والسياسة والاقتصاد به، حتى لو كان المال الوارد من قطر عبر إسرائيل واحدة من قواعد التفاهمات الجاري ترتيبها.

وعلى هذا أيضا وأيضا لم تعد الضفة الغربية وفتح والسلطة الفلسطينية أطرافاً شريكة في تلك السيناريوهات، إلا بالقدر الذي لا يشوّش على خرائط الأمر الواقع التي ستأخذ، يوماً بعد آخر، شرعيات إسرائيلية وأميركية وعربية وإقليمية.

وعلى هذا أخيراً تحظى ترتيبات غزة برعايات عربية أميركية (أوروبية ضمناً) تتجاوز الطابع التنسيقي الذي لطالما بررته إسرائيل وحماس في تفسير تواصلهما خلال السنوات الأخيرة.

قيل يوما إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين قد تمنى ذات يوم أن يصحو وقد غرقت غزة في البحر. يبدو هذا وضع السلطة الفلسطينية هذه الأيام. تظهر قيادة الرئيس محمود عباس وكأنها غير معنية بما يحاك في غزة مع حماس، وكأنها أيضا تنأى بنفسها عن شأن ليس من همومها. يكتفي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد، وهو المكلف رسميا بمتابعة ملف المصالحة بين فتح وحماس، بإبلاغ الرأي العام بأن “الإخوة المصريين” يضعون السلطة في صورة المفاوضات والتفاهمات هناك.

بات شأن غزة شأنا مصرياً يتم تدبيره وفق الرؤى السياسية والأمنية للدولة المصرية. تُعِدُّ القاهرة، بما تملكه من وزن داخل النظام السياسي العربي، قطاع غزة لمستقبل ومصير مختلفين عن ذلك الذي سيصيب الضفة الغربية.

يكفي للمراقب أن يتأمل مواقف رام الله ليستنتج أن همّ السلطة الوحيد مما يمكن أن يتداعى على مستقبل دولة فلسطين الموعودة هو أن يبلغنا “الأخوة المصريين” بما يجري.

على أن ما سيتم إنجازه من تفاهمات قد لا يخرج، مع ذلك، عن إطار التدابير الموضعية. لا تملك حماس القدرة ولا تتحلى بالشرعية التي تسمح لها بتغيير مسار الصراع باتجاه مآلات خارج سياق المسار الفلسطيني لاسيما منذ قيام منظمة التحرير. بيد أن ما هو إجرائي قد يتحوّل بفعل المنشطات الخبيثة إلى ما يتجاوز ذلك إذا ما استدعت الأجندات الكبرى ذلك.

ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية التي تنشر ممثلياتها في العالم هي المرجع الأصيل للسلطة وللضفة الغربية ولقطاع غزة ولفلسطينيي الشتات. وما زالت هذه المنظمة، إذا ما أعيد تفعيلها وليس تدجينها، قادرة بما تمتلكه من زاد تاريخي ومن اعتراف دولي وعربي -وخصوصا فلسطيني- على إعادة تصويب عقارب يزيدها الفراغ الفلسطيني تيهاً عنوانه نزق وكيدية تُملي سلوك فتح وحماس.

قد تكون العرفاتية التي كان يرثيها مشعل ويمجد ذكراها قبل 10 أشهر غمزاً من قناة القيادة الفلسطينية الحالية (فتح وحماس معا). لكنها قد تعبر في ذلك أيضاً عن وجع حمساوي داخلي، وعن حاجة من داخل حركة حماس (التاريخية) لتعويم العرفاتية دستورا ومنهجا، والعودة إلى الثوابت التي كان يتحرك داخلها أبوعمار.