لا يوجد أي طرف سياسي يتمنى او يريد انهيار لبنان، وهذا من ثوابت المشهد الوطني. والتركيز على طرفين حصراً لا يعني إهمال القوى الأخرى، إنما ربطاً بما يمتلكان من قوة دفع ومحاذير استراتيجية.
 

لا حاجة للتدليل على الواقع الاقتصادي المأسوي للبنان إلى درجة انّ كل المؤشرات، من البنك الدولي، إلى البنك الأوروبي وما بينهما المواقف الدولية وأصحاب القرار والاختصاص، تؤكّد انّ لبنان في خضم أزمة فعلية ومتمادية، وانّه في حال لم يتم الالتزام بشروط «سيدر» فإنّ الانزلاق نحو الهاوية حتمي، وحتمي جداً.

ومن قبيل إنعاش الذاكرة فقط لا غير، فإنّ «القوات اللبنانية» كانت أوّل من سلّط الضوء على خطورة الوضع الاقتصادي من خلال دعواتها المتكررة الى اجتماع حكومة تصريف الأعمال بسبب الظروف الاقتصادية السيئة ومن أجل معالجة سريعة لبند أو بندين وبما يؤدي إلى فرملة الانهيار. ولكنها جوبهت آنذاك بمواجهة سياسية وتطمينات في غير محلها، أثبتت الوقائع والأحداث انّ مخاوفها المبنية على أرقام ودراسات كانت في محلها.

وعلى رغم من توزّع المسؤوليات في حال حدوث أي انهيار، لأنه لا يجوز تحميل القوى السياسية مجتمعة المسؤولية نفسها في ظل قوى تمتلك مفاتيح القرار رئاسياً وحكومياً وقادرة على التحكّم بمسار الأمور أكثر بكثير من قوى أخرى ربطاً بحجم مشاركتها وتأثيرها ورفض الأخذ بهواجسها ومقترحاتها وأفكارها، إلاّ انّ أي انهيار سيشكّل إدانة للطبقة السياسية، وتحديداً للقوى الممسكة بزمام الأمور، خصوصاً انّ مواجهة مسألة من هذا النوع هي بيد القوى السياسية وليست متأتية من مؤامرة دولية أو ما شابه من تبريرات ساقطة. وبالتالي يجب على الأطراف المعنية ان تُظهر قدرتها على تجسيد تطلعات الناس بالحفاظ على الاستقرار النقدي واستطراداً السياسي.

وفي موازاة الحرص البديهي الوطني والسياسي والشعبي على تلافي الانهيار، يمكن الكلام عن حرص مزدوج لدى طرف خارجي هو المجتمع الدولي، وطرف داخلي هو «حزب الله»، ولكل من الطرفين أسبابه الموجبة المتصلة بأولوياته ومصالحه الاستراتيجية.

فالمجتمع الدولي لن يسمح بإنهيار لبنان اقتصادياً ومالياً، لأنّ أي انهيار من هذا النوع سيُصار إلى تحميله الجزء الأكبر من المسؤولية من زاوية رفضه الاستجابة لدعوات لبنان المتكررة بمعالجة أزمة النازحين التي فاقمت أوضاعه الاقتصادية. ولكن قلّ ما تتأثر الدول الكبرى بالإدانات المعنوية، فيما خشيتها الحقيقية من أن يؤدي الانهيار إلى رمي أزمة النازحين في وجهها بل وستكون مضاعفة هذه المرة من خلال موجة نزوح لبنانية.

ومعلوم انّ الأوضاع الاقتصادية شكّلت وتشكّل الدافع الأساس للهجرات تاريخياً، والمجتمع الدولي الذي أقفل الباب أمام موجات النازحين السوريين لن يفتحه أمام موجات من النازحين السوريين واللبنانيين، وبالتالي من مصلحته القصوى ان يبقى الوضع في لبنان مستقراً تجنباً لتحدٍ من هذا النوع هو في غنى عنه.

والحرص الدولي على الاستقرار في لبنان لا ينحصر بمسألة النازحين التي تشكّل هاجساً دولياً حقيقياً، إنما يتصل أيضاً بالخشية من انفراط الوضع السياسي، واستطراداً الأمني، وعودة لبنان ساحة ساخنة في تمدّد للنزاع السوري، ومفتوح على حرب مع إسرائيل وحروب داخلية متنقلة يصعب وقفها من دون حلّ سياسي معقّد في لبنان بسبب تركيبته الطائفية والمذهبية. وأقوى دليل الى صعوبة الحلول السياسية، انّ الحرب العسكرية في سوريا انتهت تقريباً، فيما الحلّ السياسي ما زال متعذراً. كما انّ الحروب اللبنانية استلزمت 15 عاماً قبل الوصول إلى «اتفاق الطائف»، وبالتالي أي مجازفة من هذا النوع تعني استبعاد الحلول على مستوى المنطقة التي يُعمَل عليها أميركياً.

وفي سياق المخاوف الدولية من انهيار الوضع اللبناني في هذه المرحلة بالذات، ان يشكّل هذا الانهيار مصلحة إيرانية لإشعال المنطقة من دون ان تتحمّل مباشرة المسؤولية عن انفراط الوضع. كذلك إشغال واشنطن بملفات أخرى تمكِّنها من الالتفاف على العقوبات وتجاوز «المومنتوم» الضاغط عليها، خصوصاً انّ اي حرب في لبنان قد تتحوّل حرباً إقليمية تتحكّم طهران بمسارها وتنجح في حرف الأنظار عن العقوبات في اتجاه مسارات وملفات أخرى، فيما السياسة الأميركية تركّز على موضوع العقوبات بغية شد الخناق على طهران ودفعها إلى التسليم بالشروط الدولية والتخلي عن علّة وجودها المتعلقة بالثورة، ولن تفسح في المجال أمامها لأي محاولة هروب إلى الأمام وبطريقة غير مباشرة بإشعال الجبهة اللبنانية بخلفية اقتصادية وليس بدوافع إيرانية مباشرة تسمح بالرد عليها، وحرف الأنظار في اتجاهات أخرى غير الدور الإيراني المطلوب تطويقه وتغييره.

وفي المقابل، فإنّ الطرف الثاني الذي لن يسمح بانهيار الوضع اللبناني هو «حزب الله»، ليس فقط ربطاً بتداعيات هذه المسألة على قواعده على غرار قواعد القوى الأخرى وجميع اللبنانيين، إنما في الدرجة الأولى بسبب خشيته من وجود نية دولية بفرط الوضع في لبنان بغية وضع اليد عليه دولياً، اي وصاية دولية من أجل انتشاله اقتصادياً ومنع انهيار الاستقرار. واي تدخّل دولي في لحظة من هذا النوع سيكون موضع ترحيب شعبي للتخفيف من آثار الكارثة الاقتصادية، خصوصاً ان أولوية الناس ستتحول تلقائياً إلى توفير مستلزماتهم الحياتية الضرورية ليتمكنوا من الصمود وتجنّب المجاعة والعوز والفقر.

وهناك من يعتبر انّ هذا السيناريو قد يكون الأسهل لإعلان فشل الدولة اللبنانية وكل التركيبة التي تشكّل نوعاً من حصانة دولتية لـ«حزب الله» بالتزامن مع العقوبات المشددة على إيران، وبالتالي وضع لبنان تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة وإخضاعه لوصاية مشددة لا تلقى الممانعة الشعبية المطلوبة ربطاً باهتمام اللبنانيين بلقمة عيشهم أكثر من اي شيء آخر.

وما تقدَّم يفسِّر «طحشة» الحزب في ملف الفساد من زاويتين أساسيتين: زاوية الاستجابة لمتطلبات بيئته التي رفعت الصوت عالياً، معبّرة عن نقمتها من الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وزاوية الحفاظ على الستاتيكو الحالي منعاً لاستغلال الأزمة الاقتصادية من أجل الإطاحة بكل التركيبة السياسية تمهيداً لتركيبة جديدة.

ففي ظل الحرص الدولي على الاستقرار المالي وحرص «حزب الله» لاعتباراتهما المختلفة، لا خشية مبدئياً من انزلاق لبنان نحو الانهيار. ولكن هذا لا يعني انّ المخاطر ليست جدية وكبيرة جداً. كذلك لا يجب في أي لحظة استبعاد احتمال استخدام هذا المحور او ذاك الورقة المالية لتصفية الحسابات السياسية او نقل الاهتمام من مكان إلى آخر، كما حصل في حرب تموز 2006.