مثلما كان الملوك في القرون الوسطى يعتبرون أنَّ من شأن المملكة أن تـؤمِّن لهم حياة بذْخٍ وعربدةٍ وتبذير حتى ولو تعرَّضت الخزينةُ للعجز، لأن الملك هو الدولة... «أنا الدولة..» هكذا، يعتبر علم السياسة أنَّ هناك ما يُعرف بـ«أنا الحكومية»، التي يشعر معها الحكوميون بأنّهم بها يرتفعون من «مدينة» الشعب الى «مدينة» الأمر. 

و«أنا الحكومية» في علم السياسة تصبح «أنا الملكية» في علم السياسة اللبنانية، فالنائب هو الوزير، والوزير هو النائب، والنائب هو الذي يحاسِب، وفوق كلّ نائب ووزير يتسلّط الزّيـر أبو ليلى المهلهل.

وبهذه الهيكلية الحاكمة تصبح السلطة طغمةً أحديّة طاغية، وفيلقاً من الجـنّ غير الملموس يُـرى ولا يُـرى، وهي السلطات التي يصفها الفيلسوف سقراط بأنها أكثر أشكال الحكم فساداً، حين تستخدم الأنظمة والقوانين وسائلَ خادعة للسيطرة والنهب، وسلب أبسط حقوق الشعب، واحتكار موارده الحياتية وفق المعادلة التي عبّر عنها الشاعر بقول: منكَ الدقيقُ ومنّي النارُ أُضرِمُها والماءُ مني ومنكَ السمنُ والعسلُ.

ويقولون: إن هناك خطة إصلاحية، وعلى قاعدة مكرهٌ أخوك لا بطل، قد نلمس تفاؤلاً خجولاً للحدّ من الفساد، لا تعود أسبابه الى طهارةٍ بعد دنَس، والى عفّة بعد عهـر، بل لأنّ «أنا الحكومية» قد انفصل بعضُها عن بعضها في مرَّبعات وزارية متواجهة، ينْصبُ كلٌّ منها «كاميرات» لمراقبة الأخرى، وإنَّ العدسات اللاَّصقة على عيون وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي باتت تفضح ما تخبِّـئهُ عيون اللصوص من فضائح.

وثمة مَنْ ينظر الى موقفٍ منتظر من الرئيس نبيه بري بعد قوله: «إن وضع البلد لم يعد يحتمل المزيد من الهدر والسرقات، ودعا الى إسقاط الحصانات الطائفية والمذهبية...»

ولكن، ماذا عن الآلية المعتمدة لمحاكمة الوزراء والرؤساء، والتي تشكّل براءة مسبقة للمرتكبين منهم، كأنما يحقّ لهم ما لا يحق لغيرهم حتى ولو كانوا من أصحاب الشعر الذليل الذي يتوسل التكسب والإرتزاق.

لعلَّ أبرز ما قرأت في هذا المجال عن كمال جنبلاط في كتاب «التحدّي الكبير»: (ص. 105) «أنه في المدة الأخيرة من حياته كان يجمع مبالغ كبيرة من أجل أن يرّد الى مجلس النواب جميع ما ناله من تعويضات بسبب شعوره بأنه لم يقم بواجبات هذه النيابة ولا تسمح له نفسه بأن ينال قرشاً واحداً من دون مقابل ...»

كمال جنبلاط كان يريد أن يعيد الى صندوق المجلس التعويضات النيابية وهو أفضل من يستحقها ولم تتلوِّث يـدُه بقرشٍ بالحرام، فما هو شأن الذين ما تركوا صندوقاً لمجلس إلا سرقوه، وما أبصروا فلْساً في يد أرملة إلاّ سلبوه، وما خُصِّص اعتماد لمشروع إلاّ نهبوه.

يا أيها الذين آمنوا بمحاربة الفساد، ها همُ الفاسدون أمامكم، أسماؤهم مطبوعة على شفاه الناس، وحولكم ينتشرون كالنمْل... فـ«هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين...» (سورة النمل – 64).